الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
قبل الخوض في أي مادة علمية، يجب أن نزيد من شغف المتعلم تجاه هذه المادة المطروحة، وهذا الشغف غالبًا يُبنى على أهمية المادة العلمية، أو بمعنى آخر، لماذا نحتاجها وكيف لنا أن نطبقها في حياتنا؟ وكيف لأدواتها أن تساعدنا في تطور مجتمعاتنا؟ فلا أتصور أحدًا يرغب بتعلم شيء مجرّد عن حياتنا، شيء لا يستفاد منه ولا يُطبّق، لذلك إذا ما أردنا أن نجيب عن تساؤلاتنا حول أهمية علم الاقتصاد وكيف يرتبط بحياتنا، فإن الإجابة الكافية هي المشكلة الاقتصادية.
يصبح السؤال الآن: ما المقصود بالمشكلة الاقتصادية؟ وقبل تعريفها سنستعرض عددًا من القواعد:
القاعدة الأولى: حاجات ورغبات الأفراد تنمو وتتكاثر عبر الزمن، وهذا التكاثر والنمو يجعل هذه الحاجات والرغبات غير محدودة، فلا يوجد حجم محدد لها وذلك بسبب نموّها مع الوقت، ومن ضمن هذه الحاجات والرغبات ما هو ضروري للبقاء على قيد الحياة، كالملبس والمشرب والمسكن، ومنها ما هو كمالي، أي أنه يحسّن من جودة حياتنا ولكن فقدانه لا يؤثر على حياتنا كما يفعل فقدان الضروريات.
القاعدة الثانية: الموارد التي يشبع بها الناس حاجاتهم ورغباتهم محدودة نسبيًّا، والنسبية هنا نابعة من كونها محدودة بالنسبة إلى زمن معين ومكان محدد تتواجد فيه حاجاتنا ورغباتنا، فلو كانت هذه الموارد محدودة بشكل مطلق فإنه سيكون لدينا رقم أو حجم محدد من الموارد لا يمكن تجاوزه، والبيانات الموجودة والمنطق المتعارف عليه أثبتوا عكس ذلك، حيث ثبت أن الموارد تنمو وتتكاثر عبر الزمن، ولكن عند زمن معين وفي مكان محدد يوجد حد للموارد التي يمكن استخدامها.
إذًا نخلص أن المشكلة الاقتصادية تصف الحالة التي يواجه الأفراد بها مواردًا محدودة نسبيًّا لإشباع حاجاتهم ورغباتهم اللامحدودة، ولب هذه المشكلة هو حتمية الاختيار، فبسبب محدودية الموارد كما وصفناها يتحتم على الناس اختيار ما يريدون إشباعه من حاجاتهم ورغباتهم، أي أنه لابد من التضحية بكثير منها، وهذه المشكلة تواجه الأفراد على الصعيد الفردي وعلى الصعيد المجتمعي، فعلى الصعيد الفردي يملك الأفراد دخلًا محدودًا شهريًا لإشباع حاجاتهم ورغباتهم من أكل ومعيشة وترفيه وغيرها ولذلك يختارون الأهم فالمهم، وعلى الصعيد المجتمعي تواجه المجتمعات مواردًا محدودة سنويا لإنفاقها على البنية التحتية والتعليم والصحة والخدمات وغيرها من القطاعات الحيوية وهذا يتطلب اختيار الأهم فالمهم كذلك.
ولعل ما يتبادر إلى ذهننا الآن، كيف يمكن أن تنتهي هذه المشكلة الاقتصادية؟ هل يستطيع البشر أن يتغلبوا عليها وينتجوا مواردًا غير محدودة بالنسبة للحاجات والرغبات في زمن ومكان معين؟ وللإجابة عن هذا السؤال سنفترض الآتي: اكتشف العلماء آلة بإمكانها صناعة ما تشتهيه الأنفس، فكل ما يجب على الفرد فقط هو أن يتحدث إلى هذه الآلة ويخبرها بما يرغب، أي أن من يملك هذه الآلة يملك مواردًا لا محدودة يشبع بها حاجاته ورغباته، فهل مع بزوغ هذه الآلة تنتهي المشكلة الاقتصادية؟
الإجابة البديهية هي نعم، فقد أصبح لدى الأفراد موارد غير محدودة ليشبعوا بها حاجاتهم ورغباتهم، ولكن إذا تفكرنا قليلًا فسنجد أن الإجابة هي لا! لن تنتهي المشكلة الاقتصادية بمجرد وجود هذه الآلة فحسب، فما السبب؟ لفهم السبب علينا التفكر أكثر بماهية المشكلة الاقتصادية، فمتى بدأت المشكلة الاقتصادية؟ المشكلة الاقتصادية بدأت عندما هُبط بآدم عليه السلام إلى الأرض فكان عليه السلام يعيش حياة بلا ندرة في الموارد وكان له ما تشتهيه الأنفس، فأحد خصائص هذه الحياة في الجنة أنه كان يعيش حياة أبدية تمتاز بوفرة إنتاجية كاملة وبعدها هُبط بآدم عليه السلام إلى الأرض حيث هنالك الندرة الاقتصادية، ولكن ما الذي يجعل معيشة آدم عليه السلام في الأرض تواجه مشكلة اقتصادية؟
إنها محدودية حياة البشر على الأرض، أو ما يعرف بالزمن، فالزمن مفهوم نسبي يسترشد به الناس بسبب محدودية حياتهم، أي لولا الموت والحياة لفقد الزمن قيمته، لنقل أن شخصًا ما سيعيش حياة أبدية، فما الفرق بين انتظاره لمدة ساعة أو انتظاره لمدة مليار سنة؟ فحياته أبدية ولا قيمة للساعة أو المليار سنة نسبيًا، فيترتب إذًا على محدودية الحياة محدودية الموارد الإنتاجية ومحدودية العملية الاستهلاكية كذلك حيث أن الاستهلاك يتطلب وقتًا، فالركن الأساسي الذي تقف عليه قواعد المشكلة الاقتصادية هو الزمن، ولولا الزمن أي لو أن الناس تعيش حياة أبدية لسقطت القاعدة الثانية من قواعد المشكلة الاقتصادية ولتمكن الناس من إشباع جميع حاجاتهم ورغباتهم.
ولعلنا نسأل أنفسنا الآن: هل تعد تسمية ما يواجهه الأفراد بالمشكلة الاقتصادية وصفًا دقيقًا وواضحًا لها؟ وهنا أقول بأن هذه التسمية تواجه قصورًا قد ينتج عنه قصور في فهم طبيعة ما يواجهه البشر، فما يواجه البشر ليس مشكلة تتطلب إيجاد حل لها، بل واقع حتمي يجب أن يتعايش الناس معه، وهذا أحد محاور النظرية الاقتصادية، فلا تناقش النظرية طريقة لزيادة الموارد أو تقليل الحاجات والرغبات ولا تناقش كذلك آليات لكيفية الوصول لحياة أبدية حتى يسقط أحد قواعد المشكلة الاقتصادية، بل تحاول النظرية تفسير اختيارات الأفراد للوصول إلى ما يُعرف بالاختيار المثالي الذي يعظم رفاهية الفرد، كتعظيم منفعة الأفراد من الاستهلاك المقيد بالدخل أو تعظيم أرباح المنشآت المقيدة بالتكاليف الإنتاجية، فالنظرية إذًا تحاول إيجاد أفضل الطرق لاختيار الحاجات والرغبات التي سنشبعها، أي أفضل الطرق التي يتعايش بها الناس مع هذا الواقع الاقتصادي.
وهنا أقترح تسمية هذا الواقع الاقتصادي بالقانون الاقتصادي العام بدلًا من المشكلة الاقتصادية، فهذا القانون يشمل وينطبق على جميع البشر في جميع الأزمنة والأمكنة، وبسبب هذا القانون الاقتصادي العام تنشأ الحاجة الأساسية لعلم الاقتصاد.
ختامًا، لا يمكن أن ينقرض علم الاقتصاد طالما أن هنالك زمن، والذي بسببه توجد ندرة في الموارد الإنتاجية ومحدودية في العملية الاستهلاكية والتي بدورها تقتضي عدم مقدرة البشر على إشباع كافة حاجاتهم ورغباتهم، ولذلك نحتاج علم الاقتصاد لمحاولة الوصول لأفضل اختيار ممكن من بين هذه الحاجات والرغبات لإشباعه.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال