الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لا تخلو المجتمعات من بعض الفئات التي تسعى جاهدةً لسرقة مال الغير بدلاً من العمل وكسب الرزق الحلال، فالسارق يسعى للحصول على مالٍ سهلٍ بغير تعبٍ.
والغريب، أنَّ السرقة في زمننا هذا باتت من الأمور الصعبة المُتعِبَةِ، التي تحتاج إلى مجهودٍ وتحضيرٍ طويلٍ بفعل انتشار الثقافة ووسائل الحماية التقليدية والالكترونية، فقد كان للمجرم أن يستغلَّ مجهوده في العمل، لكنَّ ميوله الإجرامي قد طغى على سلوكه.
وإذا كانت السرقة التقليدية تعتمد على سلب المال بغير رضا صاحبه؛ مثل سرقة المنزل أو السيارة وغيرهِمَا، فإنَّ جريمة الاحتيال تتمُّ برضا الضحية، بل أكثر من ذلك، يقوم الشخص المُستَهدَف بتسليم الأموال للمحتال طواعيةً، وعن طيب خاطرٍ!
حيث إنَّ المحتال يقوم بنسج خُطَّةٍ ذكيةٍ تخدع الضحية، فتجعله يعتقد بأنَّه يقوم بعمليةٍ ماليةٍ اعتياديةٍ، مثل تسديد المال في مقابل شراء منزلٍ أو تسديد فواتيرٍ، لكنَّه يتفاجأ بعدها بأنَّ أمواله ذهبت للمحتال بغير مقابلٍ.
والمشكلة أنَّ المحتالِينَ يستغلُّون انتشار الثقة في التعاملات بين الناس، ويقومون باصطياد فئةً بسيطةً غير واعيةٍ من المجتمع، وهكذا يقتنصون فرص الاحتيال هذه باقتدارٍ، وبكلماتٍ مختصرةٍ، فإنَّ المحتال يتغلَّب على ضحيته بالذكاء، وليس بالقوة أو السرعة كما يحدث في السرقة.
وإذا كان على الأنظمة أن تواجه مثل هذا السلوك الإجرامي الذكي، فإنَّ عليها أن تكون أكثر ذكاءً منه، ذلك عبر إصدار أنظمة تجريمٍ خاليةٍ من الثغرات من جهةٍ، وصارمةٍ من جهةٍ أخرى.
بناءً عليه، صدر نظام مكافحة الاحتيال المالي وخيانة الأمانة بالقرار الملكي رقم م/79 تاريخ 10-9-1442هـ، وقد نصَّ على مادةٍ صريحةٍ لتجريم الاحتيال، كالتالي:
“يُعاقَبُ بالسجن مدة لا تجاوز (سبع) سنوات، وبغرامة مالية لا تزيد على (خمسة) ملايين ريال، أو بإحدى هاتَيْن العقوبتَيْن، كلُّ مَنْ استولى على مال الغير دون وجه حقٍّ بارتكابه فعلاً (أو أكثر) ينطوي على استخدام أيٍّ من طرق الاحتيال، بما فيها الكذب، أو الخداع، أو الإيهام” (م/1).
بالتالي، يمكن تحليل جريمة الاحتيال كما يلي:
أولاً: الركن المادي: ويجب أن يحتوي على ما يلي:
– الاستيلاء على مال الغير بغير حق؛ كأن يقوم صاحب العقار ببيعه مرَّتَيْن، فيستلَّم ثمنه من مشترٍ ثانٍ بغير وجه حق.
– ارتكاب فعل أو أكثر؛ فالاحتيال لا يقتصر على لحظة الاستيلاء على المال، بل قد يحتوي على عددٍ كبيرٍ من الأفعال الإجرامية، مثل تقديم مستندات مُزوًّرةٍ وتأييدها من أشخاص متآمرين مع المحتال وغيرها من الأفعال التي تجتمع في جريمةٍ واحدةٍ لتحقيق هدفٍ واحدٍ، وهو الاستيلاء على المال.
– استخدام طرق الاحتيال؛ وهي من العناصر الأساسية التي تُميِّز هذه الجريمة، وقد طرح النظام أمثلةً عن هذه الطرق، وهي متشابهةٌ من حيث أنَّ المجرم يُظْهِرُ ما لا يُبْطِنُ، كما يلي:
* الكذب؛ كأن يدَّعي أحد الأشخاص كاذباً أنَّه موظف حكومي أو مُوثِّق.
* الخداع؛ كأن يقوم المحتال بتحضير منصَّة بيعٍ الكترونيةٍ بغرض الخداع الهادف للحصول على البيانات الشخصية والمصرفية للناس، ثم استغلالها في سحب أموالهم من البنوك.
* الإيهام؛ كأن يقوم الشخص بتسخير جماعةٍ من الأشخاص الذين يزعمون أمام الضحية بأنَّهم يتنافسون على شراء سيارةٍ مُستعملةٍ بأسعارٍ خياليةٍ، فيقوم كلٍّ منهم بزيادة السعر وبالتظاهر بأنَّهم مُتَهَالِكُونَ على شرائها لقيمتها الثمينة، وبعدها يتوهَّم الضحية بفعل جمهور المتآمرين بأنَّ قيمة السيارة ثمينة، ثم يُقدِّم الضحية عرضه ويدفع سعراً مُبالَغَاً فيه، وبعدها ينسحب جميع الأشخاص المتآمرون مع صاحب السيارة.
لكن يُلاحظ هنا أنَّ النظام لم يذكرْ حالة الفعل السلبي من المجرم ضمن الركن المادي، ذلك الذي يكون فيه الضحية مُخطِئَاً من تلقاء نفسه، فلا يُنكِرُ المحتال هذا الخطأ، بل يتماشى معه ثم يسلب المال، كأن يقول شخصٌ لآخر تفضَّل ثمن البضائع التي اشتَرَيتُهَا من المحل؛ معتقداً أنَّ الأخير هو المحاسب، فيستلم هذا الأخير المال بغير حق.
ثانياً: الركن المعنوي:
جريمة الاحتيال هي جريمةٌ مقصودةٌ، فلا تتمُّ بالإهمال، بل إنَّها تحتاج عقد النية للاستيلاء على الأموال، وهذه النية ثابتةٌ بالمنطق بمجرَّد إثبات طرق الاحتيال التي لا يمكن تنفيذها إلاَّ قصداً.
لكن نظام مكافحة الاحتيال لم يشترطْ قصداً جنائياً خاصاً لقيام التجريم والعقوبة، فلم يشترطْ وجود نية الإضرار بالضحية أو الإخلال بتوازنه المالي وما شابه، بل اكتفى النظام بقصدٍ جنائيٍّ عامٍّ يقومُ بمجرَّد إثبات القصد.
وفي هذا المجال، كان يُفضَّلُ التركيز على المقاصد الجرمية الخاصَّة كعُنْصِرٍ مُشدِّدٍ للعقوبة؛ لأنَّها تنطوي على خطورةٍ إجراميةٍ كبيرةٍ، ولأنَّ تأثير الجريمة قد يكون أعمق على الضحية.
ثالثاً: العلاقة السببية:
يجب أن يَثبُتَ أمام القاضي أنَّ الاحتيال هو سبب سلب الأموال بغير حقٍّ.
لكن لم يشرحْ نظام مكافحة الاحتيال هذه العلاقة وكيفية نفيها، فهي تنتفي في حالات مثل:
* إذا ثبت أنَّ صاحب المال لم يتأثَّر بطرق الاحتيال، بل قدَّم الأموال على سبيل الهبة مثلاً فلا يقوم التجريم،
*إذا ثبت أنَّ الضحية اكتشف طرق الاحتيال، ولم تخدعه؛ لهذا قام المجرم بضربه وسلب ماله بالقوة، فهنا يقوم وصف السرقة وليس الاحتيال.
*إذا ثبت أنَّ الضحية سلَّم الأموال للمجرم، ليس بالنظر إلى طرق الاحتيال، بل بهدف وضع الأموال في أمانة المجرم الذي سلب الأموال، فهنا يقوم وصف جريمة خيانة الأمانة التي سنشرحها بالتفصيل في المقال القادم إن شاء الله.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال