3666 144 055
[email protected]
في الجزء الأول من هذا المقال استعرضنا أبرز المبررات التي تستدعي نظاماً تشريعياً خاصا للمصرفية الإسلامية(المقال هنا). من أجل ذلك ظهرت أنظمة خاصة للمصرفية الإسلامية في وقت مبكر لدى بعض الدول وأصبحت نماذجها القانونية وخصوصاً النموذج الماليزي محط أنظار الباحثين والمشرعين في مجال المصرفية الإسلامية. مؤخراً بدأت كثير من الدول تعي أهمية هذه الخطوة القانونية خصوصاً في منطقة الخليج العربي. بل إن بعضها كالبحرين وعمان قطعت أشواطاً ملموسة ومتقدمة في تقنين المصرفية الإسلامية وتبني قواعد حوكمة شرعية شاملة حتى تفوقت في كثير من جوانبها على نماذج رائدة كالنموذج الماليزي. فعمان على سبيل المثال لم يكن لديها أي تشريع يتعلق بالمصرفية الإسلامية بل كان بعض الباحثين يصنفها ضمن الدول التي تمثل تشريعاتها البنكية عائقاً أمام المصرفية الإسلامية ولكنها في عام ٢٠١٢ قدمت نموذجاً متقدماً للحوكمة الشرعية والذي تضمنت قواعده كسابقة تشريعية إلزام المصارف الإسلامية بالتعاقد مع مراقب شرعي خارجي بشكل دوري للتدقيق على مدى التزام المصرف بالمبادئ الشرعية المتعلقة بالمصرفية الإسلامية وهو الالتزام الذي تبناه مؤخراً البنك المركزي البحريني.
بالنسبة للمملكة فإن الإطار العام للحوكمة الشرعية للمصارف وكذلك تعليمات الحوكمة الشرعية لشركات التمويل الصادران من البنك المركزي مؤخراً هما الإطار التنظيمي الوحيد الخاص بالمالية الإسلامية وكثير من أحكام هذين التنظيمين لا تزال استرشادية حتى عام ٢٠٢٣. وبالرغم من عمومية أحكام هذه التعليمات والقواعد إلا أنها حددت إطاراً أكثر وضوحاً لكثير من مبادئ الحوكمة كالاستقلالية والإفصاح وقضت على كثير من الاجتهادات الفردية للمصارف. من ذلك أنها قررت بصورة واضحة مسؤولية مجلس الإدارة عن التزام المؤسسة المالية عن مدى توافق عملياتها مع مبادئ وأحكام الشريعة وكذلك وضعت إجراءات واضحة للتبليغ عن أي اشتباه بالمخالفة أو ما يسمى في حوكمة الشركات بـ (whistleblower). ومن أبرز ما تضمنته هذه القواعد أنها قيدت تعدد العضويات في اللجان الشرعية العاملة في المملكة فلا يجوز لعضو اللجنة الشرعية في مصرف سعودي أن يكون عضواً في لجنة شرعية أخرى في مصرف آخر. أما بالنسبة للجان الشرعية في شركات التمويل فقيدت بخمس عضويات كحد أقصى. وبذلك وضعت حداً لمسألة كانت لفترة ليست بالقصيرة موضع انتقاد كثير من الباحثين في مجال المصرفية الإسلامية لما تثيره مسألة تعدد العضويات من إشكاليات تتعلق بتعارض المصالح والإخلال بسرية المعلومات.
لكن تظل هذه التنظيمات هي مجرد إطار عام للحوكمة الشرعية فلا تزال المؤسسات المالية الإسلامية في المملكة بحاجة إلى قواعد أكثر شمولية لتحقيق مستهدفات واستراتيجات تطوير قطاع المالية الإسلامية كأحد برامج رؤية ٢٠٣٠. خصوصاً فيما يتعلق بتعزيز استقلالية الرقابة الشرعية وضبط عملية الالتزام بصورة أكبر ورفع مستوى الثقة لدى أصحاب المصالح.
من الجدير بالذكر التنويه إلى أن هناك تحديات تواجه تنظيم المصرفية الإسلامية بشكل عام. فالقوانين والقواعد التي تحكم هذا القطاع لا زالت في مرحلة التطور ولم تصل إلى مرحلة النضج التشريعي بعد خصوصاً فيما يتعلق بعملية حوكمة الرقابة الشرعية حيث تواجه نماذج الحوكمة الشرعية المختلفة انتقادات وتحديات كثيرة تتعلق بالاستقلالية وتعارض المصالح ومستوى الإفصاح والشفافية. بالإضافة إلى ذلك فإن تعدد نماذج الحوكمة الشرعية يعد تحدياً لتنظيم وتطوير هذا القطاع فبالرغم من الجهود التشريعية المبذولة من منظمات إسلامية دولية مثل منظمة الأيوفي AAOIFI ومجلس الخدمات المالية الإسلامية IFSB إلا أنها لم تستطع فرض نموذج تشريعي وقواعد حوكمة شرعية شبه موحدة كما نجد ذلك في قواعد حوكمة الشركات على سبيل المثال. يعزو بعض الباحثين ذلك إلى غياب قيادة للمصرفية الإسلامية قادرة على التأثير التشريعي وفرض نموذج ملهم للحوكمة الشرعية. فالدول التي كان لها قصب السبق في سن تشريعات خاصة بالمصارف الإسلامية كماليزيا وباكستان على سبيل المثال لم تستطع فرض نماذجها على نطاق واسع.
هذا الفراغ تستطيع المملكة سده وأن تلعب مثل هذا الدور المحوري بكل جدارة وهو يتوافق تماماً مع مكامن القوة التي تستند إليها رؤية ٢٠٣٠ الطموحة والتي تعتمد على مكانة المملكة في العالم الإسلامي، وقوتها الاستثمارية، وموقعها الاستراتيجي. بل إن مثل هذا الدور لم يغب عن برنامج تطوير القطاع المالي أحد برامج الرؤية.
فبينما تتسابق مدن كدبي ولندن لجذب استثمارات المصرفية الإسلامية فقد وضع برنامج تطوير القطاع المالي هدفاً طموحاً بأن تكون المملكة عاصمة المالية الإسلامية بحلول عام ٢٠٣٠. وهي مؤهلة بكل جدارة لذلك لما تمتلكه من مقومات اقتصادية ومعنوية. فبالإضافة إلى مكانة المملكة في العالم الإسلامي وتجربتها الريادية باستضافة بنك التنمية الإسلامي وكذلك امتلاكها لقيادات مؤثرة في المجال التشريعي للمصرفية الإسلامية، فإن حجم الأصول المتوافقة مع الشريعة في السوق السعودي يزيد عن ٧٠٪ وهو ما يمثل حوالي أكثر من ٢٠٪ من حجم الأصول المتوافقة مع الشريعة عالمياً.
من بين الأهداف الاستراتيجية التي وضعها برنامج تطوير القطاع المالي لأن تكون المملكة عاصمة المالية الإسلامية هو تعزيز حوكمة قطاع المالية الإسلامية. لذلك من الضروري أن يشهد قطاع المصرفية الإسلامية تنظيمات أخرى وقواعد حوكمة أكثر شمولية في هذا الجانب لتحقيق هذه الاستراتيجية. مثل هذه المبادرات التنظيمية ضرورية كذلك لتوطين سوق الاستشارات الشرعية والحد من تسربها خارج المملكة. فنظراً للحجم الكبير الذي يمثله سوق المصرفية الإسلامية داخل المملكة نشأت مكاتب استشارية شرعية خارج المملكة تستهدف بشكل أساسي السوق السعودي. ولاشك بأن تنظيم وحوكمة هذا القطاع الواعد اقتصادياً مهم لتوطينه وجلب الخبرات إليه وهو ما سيسهم في تحقيق أهداف برنامج تطوير القطاع المالي.
إن الأمل معقود بعد الله بهذا البرنامج لتكون المملكة رائدة في عملية التطوير التشريعي ونمذجة قواعد الحوكمة الشرعية حتى تقود مسيرة المصرفية ليس لتكون عاصمة المالية الإسلامية فحسب بل ولتكون عاصمة التشريع في مجال المصرفية الإسلامية كذلك.
© 2020 جميع حقوق النشر محفوظة لـ صحيفة مال
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734