الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
أكتب عن الصناعة، بمناسبة هذا الزخم، و ذلك الاهتمام، اللذان أصبحت الصناعة تحظى بهما في الأيام الأخيرة. حيث بدأ ذلك بانشاء وزارة مختصة للصناعة، و تلا ذلك، أو سبقه، الاهتمام بموضوع المحتوى المحلي، و برنامج صنع في السعودية و إنشاء بنك للاستيراد و التصدير، و ذلك الحراك القوي الذي يشهده الصندوق السعودي للتنمية الصناعية، و غير ذلك من البرامج و الجهود. فالصناعة، مع تلك الجهود، و مع ذلكم الحراك، موضوع هام أراه يستحق من التأمل و النقاش و الكتابة الشيء الكثير.
هل الصناعة أم الاقتصاد؟
و أقصد هنا الأنشطة الاقتصادية، و لكنها الرغبة في اختصار العنوان. الاجابة، من وجهة نظري: نعم، بل هي أم الأنشطة الاقتصادية و أبوها، بل هي أكبر من ذلك حيث دورها في الأمن و الاستقرار و الازدهار الاجتماعي، و قوة و استقرار القرار الاقصادي للدولة، و لنا في ما مر به العالم أثناء جائحة كورونا العبرة و العظة. شخصياً، لا تستهويني الأرقام الاقتصادية كثيراً و المقارنات بينها، و ان كنت أسعد بارتفاعها في الجانب الايجابي. الذي يسعدني، حقيقة، هو انعكاس الأرقام على أرض الواقع و تحديداً، على عمل المواطن و معيشته و حياته اليومية، اذ ذاك هو ما تسعى إليه الحكومات و أجهزتها و مؤسساتها لما له من دور في استقرار المجتمع و تماسكه. هذا هو ما يعرف بالتنمية الاقتصادية التي تأتي الصناعة ركيزتها و سندها الأساس، ليس لقدرتها على خلق فرص عمل للمواطنين، و الرفع من مستوى المجتمع و تقدمه، و لكن، و هو الأهم، قدرتها على الرفع من مستوى العديد من الأنشطة و المجالات الأخرى في البلد. فالصناعة هي المحرك الرئيس للعديد من المجالات و الأنشطة، و هي القادرة على إيجاد اقتصاد قوي و متين يصعب تأثره بالهزات الاقتصادية، و لنا الحق في المقارنة بين الدول الصناعية و غيرها عند تعاملها مع الأزمات المالية أو الاقتصادية التي مرت بها دول العالم خلال السنوات العشرين الماضية. حتى كلمات هذا المقال، و التي هي خدمية في طبيعتها، ما كان لها أن تصل لكم لولا الصناعة، حيث القلم و الحبر والطابعة و جهاز الحاسب و غيرها.
هل تقوم الصناعة دون دعم الدولة؟
هنا سأجيب مستنداًعلى قراءة التاريخ الاقتصادي للكثير من الدول، حيث يشهد ذلك التاريخ بأن الصناعة، في بداية ثورتها في اوروبا، لم يكن لها أن تقوم لولا تدخل الدولة و دعمها و توجيهها لتلك الصناعة. الأمر لم يتوقف على الدول الأوربية، حيث بدأت الصناعة، و لكن الأمر امتد إلى أمريكا، ثم اليابان، و بعد ذلك إلى كوريا الجنوبية و غيرها من الداخلين الجدد في المجال الصناعي و انتهاء بالصين. قامت الصناعة في جميع تلك الدول على اسلوب الدعم و التحفيز و التشجيع، بل وصل الأمر ببعض الدول أن تتدخل في مسار بعض شركاتها و توجهها التوجيه الذي تراه ملائماً و يسير وفق تطلعات و توجهات البلد الاستراتيجية، و ماقام به الرئيس الكوري الجنوبي الأسبق السيد بارك تشونغ هي الذي ألزم شركة سامسونج على ترك مجالها الرئيس و التحول إلى صناعة الكابلات ، حيث أوصلها ذلك القرار إلى ما وصلت إليه، و كذلك ضغطه على شركة هونداي للدخول في مجال بناء السفن إلاً دليلاً على ذلك، و حديثاً موقف الحكومة الأمريكية مع شركة جنرال موتورز أثناء الأزمة المالية في العام 2008.
هل تقوم الصناعة دون حماية؟
الاجابة، قطعاً، لا، و التاريخ الصناعي، كما أشرت عند الحديث عن الدعم و التشجيع، يشهد بذلك. ففي الوقت الذي كانت فيه الدول التي سبقتنا صناعياً، قديمها و حديثها، تدعم صناعتها من جانب، فقد كانت تقف بقوة على حدودها و موانئها، و تسن الأنظمة و التشريعات التي تحمي صناعتها، و بالذات الناشئة منها، من أن تقتلها و تقضي عليها المنتجات المستوردة القادمة من دول خبرت الصناعة و جربتها حتى قامت تلك الصناعة على أقدامها.
قد يقول قائل، أن ذلك تم قبل وجود منظمة التجارة العالمية و الدخول في اتفاقياتها. هذا صحيح، ولكن رغم تشريعات المنظمة و اتفاقياتها، فاننا لن نعدم أن نجد طرائق و وسائل لحماية صناعتنا. لن يتمكن المنتج المحلي، الذي لم يشتد عوده بعد، من منافسة منتجات قادمة من الشرق أو الغرب، تجاوزت رياح النشأة، و أصبحت تجوب العالم شرقاً و غرباً ، و فرضت نفسها في الكثير من الدول، و داخل العديد من المنازل.
هل الصناعة مشروع قصير الأجل؟
الصناعة مشروع استثماري طويل الأمد، و عائده غير مشجع مقارنة بالأنشطة الاستثمارية الأخرى، التي تتميز بارتفاع عوائدها و سرعتها. بل ان الانشطة التي تستفيد من الصناعة و تقوم على مخرجاتها كالتجارة و التوزيع و النقل و غيرها تقطف ثمار الصناعة و تستفيد منها. لذا فان النظر إلى الصناعة مثل بقية الأنشطة الأخرى ليس فيه من العدالة شيء، و هو لن يحقق تطلعات التنمية الاقتصادية التي ينشدها أي بلد، دع عنك أهمية ذلك و انعكاسه على استقرار البلد و قوة حضورها الاقتصادي و السياسي، حينما تكون صناعتها قوية و تمنعها من الحاجة للخضوع و التودد لغيرها، و لنا في جائحة كورونا، كما أشرت، الدرس الأوضح و الأكبر، حيث أخذ الكثير من الدول، بل جميعها، بالتفكير في مصالحهم أولا، و وصل الأمر إلى حد إيقاف تصدير بعض المنتجات و تدخل رؤساء الدول عند نظرائهم لتسهيل امداد دولهم ببعض ما تحتاجه من السلع الضرورية على الأقل.
هل الصناعة للصناعيين؟
كتبت مقالاً، حينما تم الاعلان عن إنشاء وزارة للصناعة، قلت فيه أننا نخطئ حينما نقدم هذه الوزارة و كأنها وزارة تعنى بالصناعيين وحدهم، و تخصهم دون سواهم، لاننا بذلك، اختزلنا ما يجب أن تكون عليه الصناعة في البلد، و أخطأنا في الطريقة التي نتعامل بها معا و نقدمها للمجتمع بكافة شرائحة. قصة ماليزيا، على سبيل المثال، يجب أن تكون حاضرة هنا. لم تكن ماليزيا بلداً صناعياً، بل هي بلداً زراعياً تقليدياً، يمارس أبناؤه الزراعة و ما يرتبط بها من أعمال بطرقهم التقليدية، حينما قرر رئيس الوزراء الأسبق مهاتير محمد تحويلها إلى بلد صناعي، لم يبدأ العمل مع المهتمين و المتحمسين للصناعة وحدهم، حيث هم أحد المكونات الرئيسة و الفاعلة لتحقيق طموحاته الصناعية، بل كان التركيز على المجتمع بأكمله و العمل على تأهيله و نقله، من التفكير الزراعي البدائي إلى الاهتمام بالميدان الصناعي. حينما يكون المجتمع ذو فكر و اهتمام صناعي تجده يتفاعل مع البرامج و الخطط الصناعية، حيث سيكون هو الموظَّف في المصنع، و المستهلك للمنتج، بل سيكون هوالمتبني لتلك الخطط و البرامج.
للأسف الشديد، أننا لم نصل إلى تلك المرحلة بعد، فالصناعة لدينا مازالت تتركز في محيط الصناعيين و وزارتهم، و لم تتجاوز ذلك لتكون شأناً و طنياً كما هو التعليم و الصحة، على سبيل المثال. حيث لم نتمكن بعد من إيصال ما نريده و ما نبتغيه من الصناعة إلى كافة شرائح المجتمع كي تتفاعل مع رغباتنا و طموحاتنا الصناعية، و لم نعمل على بيان أثر الصناعة و فائدتها، ليس فقط للأنشطة الاقتصادية الأخرى، أو للمواطنين أنفسهم، بل دورها في الاستقرار و الاستقلال السياسي و الاقتصادي و التماسك الاجتماعي لأبناء الوطن.
الطموح الصناعي و المشروع الوطني
لدينا طموح صناعي واضح، و هذا أمر لا يحتاج اثبات. و الطموح أمر جميل، بل هو الباعث و المحفز لأي عمل، و لكن ذلك الطموح يجب أن يكون دقيقاً في منطلقاته و واضحاً في مساراته، و الاّ واجهت الانطلاقة و عانى المسار من بعض العوائق و الصعوبات. الانطلاق و السير نحو مشاريع جديدة و مبتكرة، أمر جميل، و لكن ذلك يجب أن لايكون على حساب الصناعات التقليدية و المعروفة و التي ستبقى ركنا أساساً و مطلباً ضرورياً لأي صناعة في العالم، حيث هي أساس الصناعات الأخرى، و مازالت في الدول التي سبقتنا صناعياً، و لم تتخل عنها منقادة بما يعرف بالابتكار و الابداع، مع حرصها على هذا الأخير و اعطائه مايستحق من عناية و اهتمام، فالتوازن هنا مطلوب، و معرفة قدرات المجتمع و امكاناته و المرحلة الصناعية التي يمر بها أمر ضروري.ثم أن الصناعة يجب أن تتحول من اجتهادات و مشاريع، إلى أن تكون مشروعاً و طنياً تتبناه الحكومة، بكافة أجهزتها، و تقوده وزارة الصناعة و أذرعتها المتعددة، تسخر له – أي الحكومة- كافة الامكانات من دعم و تشجيع و تحفيز، كما حدث في دول العالم التي سبقتنا صناعيا، و كما ورد في الاشارات أعلاه، إذ هو مشروع استثماري وطني يستحق التضحية العاجلة في سبيل المكاسب الآجلة، ثم هو مشروع يجب أن يؤمن به الجميع، و ليس الصناعيين و حدهم أو الجهات المعنية بالصناعة فقط. هو مشروع كل بنك، و كل مستثمر، و كل مواطن، و كل جهاز حكومي، مما يتطلب وضوحاً في الرؤية و تحديداً بيناً للمسار. فاذا كان التعليم و الصحة هاجساً للجميع لملامستهما لحياته اليومية الحالية، فان الصناعة يجب أن تكون هماً للجميع أيضاً لدورها في ازدهار البلد و رقيه و تقدمه و ضمان مستقبله.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال