الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في سابقة تشريعية أصدر البنك المركزي السعودي العام الماضي الإطار العام للحوكمة الشرعية للمصارف العاملة في المملكة ليكون أول تنظيم خاص للمصرفية الإسلامية في المملكة. مؤخراً أصدر البنك المركزي كذلك تعليمات الحوكمة الشرعية في شركات التمويل. جاء تنظيم هذا القطاع الواعد والمهم بعد فترة جمود تشريعي طويلة ليواكب الأهداف الاستراتيجية التي حددتها رؤية ٢٠٣٠ وخصوصاً ما ورد في وثيقة تطوير القطاع المالي كأحد برامج الرؤية والتي حددت المالية الإسلامية كأحد أهم استراتيجياتها ورسمت لها أهدافاً تشريعية وأطراً قانونية طموحة. فما هي أبرز الأسباب التي تستلزم تنظيم هذا القطاع؟ ولماذا يصعب على المصارف الإسلامية أن تتطور تحت منظومة تشريعات البنوك التقليدية؟.
عند ظهور المصرفية الإسلامية منتصف القرن الماضي كبديل للمصرفية التقليدية لم تكن تتطلب أنظمة خاصة بل حتى هيئات أو لجان شرعية وذلك بسبب بساطة عملياتها وعدم تعقيدها آنذاك. لاحقاً بدأت الأنظمة تتدخل لضبط هذا القطاع خاصة بعد الانتشار الواسع للمصرفية الإسلامية مع بداية القرن الحالي سواء من الناحية الجغرافية؛ والتي لم تقتصر على الدول الإسلامية فقط بل أصبحت دولاً كبريطانيا تنافس بعض الدول الإسلامية الرائدة في هذا المجال لجذب هذه الصناعة؛ أومن ناحية نوعية الخدمات المقدمة والتي شهدت ثورة في هذا المجال.
أحد أهم دواعي وجود أنظمة خاصة للمالية الإسلامية أن طبيعة العقود التي تتعامل بها المصارف الإسلامية كالمرابحة والمضاربة والمشاركة قد لا تتناسب مع الأنظمة البنكية التقليدية. فهذه العقود تتطلب من المصارف الإسلامية أن تتملك بعض الأصول العقارية وأن تمارس نوعاً من التجارة الأمر الذي تحظره أو تقيده الأنظمة البنكية التقليدية ومن ذلك النظام السعودي كما ورد في المادة ١٠ في نظام مراقبة البنوك السعودي وهذا ما يضطر المصرفية الإسلامية في السعودية لإبرام مثل هذه العقود إما على سبيل الاستثناء أو عن طريق شركات وساطة. إضافة إلى ذلك هناك عوائق قانونية أخرى تستلزمها طبيعة هذه العقود كالازدواج الضريبي التي قد تنتج عن بعض عقود الشراء كالمرابحة أو صعوبات الالتزام بالاحتياطيات المقررة من قبل البنوك المركزية والتي قد لا تتناسب مع طبيعة المصارف الإسلامية.
نصت وثيقة تطوير القطاع المالي على أهمية الحوكمة الشرعية لتقليل مخاطر النظام المالي وفي الحقيقة هذه المخاطر الإضافية التي تحيط بالمصرفية الإسلامية هي سبب آخر مهم لتنظيم هذا القطاع. فبالإضافة للمخاطر التي تتعرض لها البنوك التقليدية فإن المصرفية الإسلامية معرضة لمخاطر أخرى خاصة بها. فهناك مخاطر الملكية وهي المترتبة على ملكية بعض الأصول عند الدخول في عقود المضاربة أو الإجارة الشرعية. أيضاً هناك مخاطر تجارية متمثلة في احتمالية التعرض لخسارة نتيجة الدخول في عقود المشاركة. أخيراً هناك المخاطر الشرعية أو ما يسمى بالسمعة الشرعية المتمثلة في احتمالية التعرض لخسائر نتيجة عدم الالتزام بالمبادئ الشرعية. هذه المخاطر الإضافية غير موجودة في البنوك التقليدية ومن الضروري استيعابها في أنظمة خاصة للحد من آثارها لما قد ينتج عنها من تداعيات اقتصادية.
كمثال على ذلك ما حدث في نهاية عام ٢٠١٤ عند طرح أسهم البنك الأهلي للاكتتاب. فبالرغم من إعلان البنك الأهلي عام ٢٠٠٤ عن استراتيجيته للتحول إلى مصرف إسلامي وإنشاء لجنة شرعية عام ٢٠٠٦ تنفيذاً لهذه الاستراتيجية إلا أن عملية الاكتتاب كانت مثار اختلاف شرعي بسبب مدى كفاية الإجراءات التي اتخذها البنك لإتمام هذا التحول. هذا الغموض حول مدى إسلامية البنك وبالتالي شرعية الاكتتاب أثر على إقبال المكتتبين بالمقارنة مع اكتتابات أخرى مشابهة. فبينما بلغ عدد المكتتبين في البنك الأهلي حوالي ١.٢٥ مليون مكتتب كان هناك حوالي ٨.٨ مليون مكتتب في كل من بنك البلاد و مصرف الإنماء مع الأخذ بالاعتبار أن البنك الأهلي كان قائماً وقت الاكتتاب ويحقق أرباحاً معقولة وفق قوائمه المنشورة وقتها بخلاف المصرفين الآخرين اللذين تأسسا مع الاكتتاب. في تقديري هذا الفارق في عدد المكتتبين (حوالي ٧ أضعاف) نشأ نتيجة خشية المستثمرين من وجود مخاطر شرعية في معاملات البنك. هذه المخاوف كان بالإمكان التقليل منها لو كان هناك قواعد واضحة تنظم عملية التحول إلى المصرفية الإسلامية في إطار زمني محدد وهو ما تنص عليه قواعد الحوكمة الشرعية في بعض الدول.
لا تقتصر خصوصية المصرفية الإسلامية فقط على طبيعة العقود التي تبرمها وما تجلبه من مخاطر بل تمتد إلى ما يستلزمه هيكلها الإداري من وجود رقابة شرعية كضمان لأصحاب المصلحة بالالتزام بالمصرفية الإسلامية والمتمثلة بشكل رئيسي في الهيئات الشرعية. هذا النوع من الرقابة يشكل عنصراً جوهرياً لا غنى عنه في المصرفية الإسلامية ومن الضروري تنظيم هذه الرقابة وفق قواعد حوكمة شرعية خاصة تعزز الشفافية والاستقلالية وتضمن لأصحاب المصالح التزام هذه المصارف بالمبادئ الشرعية وألا يترك مسألة تنظيم الالتزام لاجتهادات المصارف الخاصة والتي قد يعتريها حالات تضارب المصالح.
إضافة لذلك فإن بعض عقود المصرفية الإسلامية قد ينتج عنها حقوق خاصة لبعض العملاء. فعلى سبيل المثال هناك جدل حول طبيعة حقوق المودعين في حسابات المضاربة الإسلامية فمن ناحية هم يحصلون على أرباح كحال مساهمي الشركات ولكنهم لا يتمتعون بنفس حقوقهم وامتيازاتهم. وبالتالي ينشأ لدى المصرفية الإسلامية صنف خاص من أصحاب المصالح لا يمكن تجاهل حقوقه ضمن الحقوق الأخرى المقررة في إطار قواعد حوكمة الشركات.
لذلك فالمصرفية الإسلامية تتطلب أنظمة تتناسب مع هذه الطبيعة الخاصة من أجل خلق بيئة عادلة بحيث تعمل وفق إطار تشريعي يتناسب مع متطلباتها. بينما هناك محاولات تشريعية في هذا الجانب إلا أن المصرفية الإسلامية لا تزال بحاجة إلى أدوار تشريعية أكبر للنهوض بها وهو ما سنستعرضه في الجزء الثاني من هذا المقال.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال