الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في سلسلة هذه المقالات الموجزة، قد قسّمتها إلى ثلاث مقالات، أولها هو وصف تدريس القانون أكاديميًا في الجامعات السعودية وبيان إشكالياته، وثانيها هو وصف تدريس القانون أكاديميًا في الجامعات الأمريكية وتبيين مزاياه، وثالثها هو محاولة إيجاد الحلول والاقتراحات لتطوير الواقع القانوني الأكاديمي في الجامعات السعودية.
كثيراً ما نسمع من خريجي كليات القانون تبرّمهم بأن نسبة ما تعلّموه في القاعات الدراسية لا يكاد يُمارس بعد التخرج إلا بنسبة يسيرة، مقارنةً بعدد المقررات التي دُرست. ومن أسباب ذلك هو ما يُلحظ من التشابه الكبير في تواصيف ومراجع مقررات القانون بين الجامعات من حيث الأسلوب التقليدي والمضمون النظري من غير تجديد، مما قد يفوّت على الطالب فرصة إعداده وتحضيره لسوق العمل، ولو جُزئيًا، قبل تخرجه. ولعل إشكالات تدريس القانون تكون من جانبين رئيسين، منها ما هو متعلق بالأسلوب والطريقة، ومنها ما هو مرتبط بالمحتوى والمضمون. لذلك، فالاعتراف بوجود الفجوة بين الممارسة العملية وبين المعرفة النظرية في كليات القانون هو خطوة أولى مهمة لرأب هذا الصدع، والذي قد يعكس صورةً لواقع أكاديمي مفارِقٍ لواقع التطبيق الفعلي للقوانين. إذن، فالتطوير متطلبٌ أولاً من كلية القانون نفسها لكونها شريكًا مهمًا في تطوير المناهج والمقررات، ثم من الكادر التدريسي، ثم حتى من الطالب نفسه.
فأما بالنسبة لمحتوى ومضمون مقررات القانون، فبسبب التسارع الإيجابي في تعديل وتحديث الأنظمة والتشريعات، فقد لا تواكب تواصيف تلك المقررات دوريًا هذا التطور، فيبقى فيها الإحالة على أنظمة غير سارية وغير معمول بها، وذلك أن بعض التواصيف لا تُراجع إلا كل خمس سنوات مثلاً. ومن الملاحظ أيضا أن طالب القانون قد يتخرج من الكلية وهو لم يخض تجربة فحص واستخلاص وقائع وتسبيب ومنطوق الحكم القضائي، وتطبيق المبادئ الشرعية والقانونية على القضية المعروضة أمامه، واستخلاص توجه المحكمة في قضيةٍ ما خصوصًا إذا تتابعت الأحكام في مسألةٍ ما على نحوٍ معيّن، وممارسة دور محامي الاستئناف في نقد الحكم والسعي لنقضه، والتدرب على صياغة العقود وتحرير الاتفاقيات، وبالتالي فقد يصادف عقبة حقيقية حين حاجته لتلك المهارات في حياته العملية. ومما هو مشاهدٌ بشكل سلبي أيضًا، الاهتمام في تدريس القانون بكمية وكثرة وتكرار المعلومات على حساب الفهم والتطبيق والممارسة. ومن أسباب ضعف المخرجات أيضًا، هو اعتماد البعض على كتاب نظري كمرجع أساسي في تدريس المقرر القانوني، ثم القراءة منه بطريقة التلقين والإلقاء، من غير تدعيمه بوقائع قانونية وأحكام قضائية كافية تسهّل الاستيعاب والممارسة، وتهيّئ الطالب للمستجدات القانونية القائمة والقادمة. ومن الملاحظات أيضا، الاسترسال في المقارنة بتشريعات عربية أو أحاكم قضائية أجنبية في المقررات الأكاديمية، مع أن التركيز على التشريعات المحلية وأحكامنا القضائية، ومقارنتها ببعضها البعض، هو أكثر إثراءً للطالب؛ لزيادة الحصيلة التراكمية القانونية، سواءً المهارية أو المعرفية، ومن ثم تطور الطالب وصقله، بعيـداً عـن الأسـاليب التقليدية المسهبة والمملة في المقارنة بين تشريعات وأحكام قضائية عربية أو أجنبية. فالتشريعات المحلية والأحكام القضائية السعودية إذن زاخرةٌ وغزيرة بتطبيقات تفيد الطالب وتعينه لمعرفة كيفية تطبيق المادة القانونية على الواقعة القضائية. ومن إيجابيات العناية بالتشريعات والقضاء المحلي، هو تنشئة الطالب وإعداده ليصبح متكيّفا مع المتغيرات التشريعية والقضائية المستقبلية، فيكون متهيّئاً لمواجهة أي معضلة أو مأزق تشريعي أو قضائي، وبالتالي مساهمته الفاعلة في إصلاحها وتقويمها.
وبالرغم من أهمية الجوانب النظرية في دراسة القانون، إلا أن الإيغال فيها على حساب الجوانب التطبيقية يُفقد الطالب التهيئة والتأهيل القانوني لسوق العمل بعد التخرج. فالتشعب الكبير للقوانين لا يمكن أن يغطيها دراسات نظرية في القاعات الدراسية، بل على العكس، سيكون ذلك الوقت على حساب الإعداد والتأسيس العملي الأكثر أهمية. فالأمر المُشكل هو أن تكون العناية أكثر بالشرح والتعليق على المواد القانونية في النظام نفسه أو مقارنته بأنظمة دول عربية مجاورة، والذي يمكن الوصول لها آلياً بشكل سهل. وليس المقصود هو الدعوة لإهمال الجوانب النظرية في تدريس القوانين، فإن ذلك متعذر، ولكن الهدف هو دمج الواقع العملي بالجانب النظري بطريقة متعادلة ومتكاملة، بحيث لا يطغى النظري على العملي، خصوصًا وأن طبيعة بعض المقررات تقتضي نواحٍ نظرية، ولكنها ينبغي ألا تكون هي الغالبة بحيث تنفر الطالب من المادة العلمية، وربما تكون سببًا في إخفاقه واحباطه.
وأما بالنسبة لكيات الشريعة، فإن خريجيها قد يتميزون بدراسة الفقه وفروعه وإشكالاته وتطبيقاته بشكل مفصّل، مضافًا إليه أصول الفقه والقواعد الفقهية بشكل مركّز، مما قد يؤهّلهم ويساعدهم لقياس وتنزيل المستجدات والنوازل القانونية الغير منصوص عليها نظامًا على فروع الفقه وأصوله وقواعده. ومع ذلك، فإن معرفتهم قد تكون محدودة بقضايا القانون وتقسيماته وأنواعه، ومن ثم فيحتاج الطالب حينئذٍ إلى جهد ذاتي من خلال القراءة والبحث والاطلاع للحصول على المعلومات القانونية الأساسية، والتي يتميز بمعرفتها خريج القانون. والحديث بالفروقات هنا بالطبع هو عن حديثي التخرج، أما الممارس فإن ما تعلّمه في الجامعة يكاد يذوب في بحر التجربة والخبرة بالمزاولة العملية للقانون، فيكتسب حينئذٍ معارف ومهارات لا تكاد توجد في مقاعد الدراسة.
وأما بالنسبة لطريقة وأسلوب تدريس القانون، فمما هو منظور هو استخدامُ أساليب تدريس تقليدية، طريقةً ومحتوى، تعتمد على أسلوب الإلقاء وإيصال معلومات نظرية في قوالب جامدة لحفظها واسترجاعها لاحقًا بعيدًا عن الناحية التطبيقية عن طريق التدارس والمناقشة. ولعل ذلك عائدٌ إلى أن بعض كليات القانون لازالت أسيرة لطرق تعليم تقليدية، ناتجةٌ عن الثغرة والفجوة بين معرفة متطلبات وواقع سوق العمل المتزايدة وبين مخرجات الخريجين، مما قد يؤدي إلى العجز عن مواكبة الواقع القانوني وصدمة الخريج. والواقع المشاهد أن كثيرًا من كليات القانون تنهجُ الطريقة الأكثر اتباعًا في التعليم وهي المحاضرة والأسلوب التقليدي، من حيث الاعتماد على “المُذكِّرة” أو “الملزمة” أو الكتاب في أحسن الاحوال، فيعوّل الطالب عليهم بشكل كلّي حفظًا؛ لتحقيق النجاح الوقتي بالحصول على درجة عالية ومن ثم التخرج، فاقدًا بذلك المهارات العملية والتفكير الناقد.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال