الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في المقال الأول كان الحديث إجمالًا عن وصف الواقع التدريسي للقانون في الجامعات السعودية محتوىً وطريقةً، وبيان سلبياته، إقرارًا بها؛ لغرض التصحيح والتقويم. والحديث في هذا المقال الثاني يُسلَّط بشكل موجز على وصف واقع تدريس القانون في الجامعات الأمريكية، وبيان خصائصه وسماته؛ محاولةً للانتفاع منها، رابط المقال الأول هنا.
ففيما يتعلق بأسلوب ونمط التدريس، فإن أحد الفروق الرئيسة بين الدراسة في كلية القانون في الولايات المتحدة وبين الدراسة في الجامعات السعودية هي الطريقة التي يتم بها تدريس المواد الدراسية. حيثُ يستخدمُ أساتذةُ القانون الذين يدرِّسون القانون غالبًا أسلوبًا تعليميًا يُعرف باسم “الأسلوب السقراطي Socratic Method”، –والذي يأتي من الفيلسوف اليوناني سقراط–، وخصوصًا في السنة الأولى بكلية القانون، والتي تحتوي على أهم المقررات القانونية كقانوني العقود والجنائي وغيرهما. ذلك الأسلوب يعتمدُ في الأساس على النّقاش التكاملي والحوار التفاعليّ بين الأستاذ وطلابه. حيث يبدأ الأستاذُ غالبًا باختيار الطالب عشوائيًا في المحاضرة، فيما يُسمّى بطريقة الـ Cold Call Method، فيبدأ الطالب حينئذٍ بتلخيص القضية المطلوبة، ذاكرًا وقائع القضية، ومشكلتها، وقانونها، وحكم المحكمة فيها، فيما يُعرف بطريقة الـ IRAC، وتُستخدم هذه الطريقة أيضًا في إجابات الاختبارات. بعدئذٍ، يبدأُ الأستاذ بمساءلة الطلاب واستخراج آرائهم بشأن وقائع وتسبيبات وقرار المحكمة في القضية نفسها، والتي من الواجب على الطالب التحضير والاستعداد لها قبل المحاضرة. ثم بعد ذلك، ينتقلُ الأستاذ وطلابه إلى القضية الثانية في المنهج بمثل الطريقة أعلاه، وهكذا دواليك. وفحوى الطريقة السقراطية في التعليم القانوني، هو أن الأستاذ الجامعي قد لا يجيب على تلك الأسئلة المطروحة، ولا يعطي إجابةً صريحةً واحدةً خلال المحاضرات، بل يقوم طوال المحاضرة أو أغلبها بطرح الأسئلة، وإدارة النقاشات مع الطلاب، ومن خلال طرح الأسئلة يصل الطلاب إلى العلم والمعرفة. فالسؤال هنا هو أساس العلم وليست الإجابة. إذن، فهذا المنهج السقراطي المُتبنّى في طريقة التدريس بكليات القانون في الجامعات الأمريكية كانت فكرته مُستلهمةً من منهج سُقراط في تعليم طلابه من خلال طرح سؤالٍ تلو الآخر، الأمر الذي ساعدهم على التفكير النقدي فيما يُعرف بالـ Critical Thinking لصقل أذهانهم، وتصويب أفكارهم.
وبناءً على ذلك، فإن أهداف ومقاصد هذه الطريقة في التدريس المشابهة للاستجواب من خلال طرح سلسلة من الأسئلة المستمرة على الطلاب عديدة، فهي تساعد الطالب على فحصِ حججِ أطراف القضية، من خلال توضيح نقاط قوتها، وكشف المغالطات فيها لتفنيدها، ومن ثم تصويبها لتكون أكثر متانة، مما يتيح للطلاب فرصة رؤية أنفسهم كقضاةٍ، وتصوّر لهم كيفية حسم النزاعات القانونية. أيضًا، تلك الطريقة تُظهر لطلاب القانون ما هي الحجج الأكثر إقناعًا من جانبي القضية، وما هي الأسئلة والإشكالات القانونية الأكثر أهمية عند القضاة، ممّا يمكّن الطلاب بعد ممارستها ليكونوا قضاةً محنكين، أو محامين ضليعين قادرين على تمثيل عملائهم بشكل فعّال. إضافةً إلى ذلك، قد يُغيّر الأساتذة بعض وقائع القضية لوقائع افتراضية مختلفة؛ لتبيين كيف يمكن أن يتغير حل القضية ونتيجتها بشكل كبير لو تغيرت واحدة فقط من ملابسات القضية، فتُستخدم تلك الطريقة السقراطية لتعليم الطلاب كيف تم تطبيق القانون على وقائع حاضرة في القضية، وعلى تعليمهم أيضًا كيفية تطبيق القانون على وقائع افتراضية غائبة ليست في القضية. علاوةً على ذلك، وبما أن إن الحوار حول القضية بين الأستاذ والطالب يكون أمام القاعة بأكملها، فالطالب بعدئذٍ يصبحُ متمكنًا من ممارسة التفكير الناقد تحت الضغط، وتبيين الحجج والأدلة، والرد على الرأي الآخر، بسرعة وكفاءة، كما أنه يساعده على إتقان فن التحدث أمام مجموعات كبيرة، فيتخرج طلابُ القانون لاحقًا بقدرة ومَلَكَةٍ على التحليل والتعليل والتسبيب. وأخيرًا، فإن الأساتذة يفضّلون الطريقة السقراطية؛ لأنها تساعدهم على إشراك جميع الطلاب في القاعة، وليس فقط الأكثر صوتًا أو الأكثر جرأةً. إذن، فدراسة القانون في كليات القانون الأمريكية مبنيةٌ على التدارس والمناقشة، لا على الإلقاء والحفظ، ذلك أن النقاش يشجع ويفتح المجال لإبداء الرأي بالاعتراض أو التأييد، مما يؤدي بدوره إلى تشكيل الشخصيةِ والمَلَكَةِ القانونية القادرة على: أولا/ التنبؤ بالإشكالات القانونية قبل وقوعها بالاحتراز منها لتفاديها من خلال النظرة الوقائية، وثانيا/ إيجاد الحلول القانونية بعد وقوعها ومعالجتها من خلال النظرة العلاجية (بالتقاضي، أو التحكيم، ونحوهما).
وأما بالنسبة للمحتوى والمضمون، فإن الأحكام والسوابق القضائية بوقائعها وتسبيباتها ومنطوقها هي غالبًا موضوع المقرر؛ ذلك لأن تلك الأحكام هي في الغالب القانون المستمد والمعمول به. والسوابق القضائية إما أن تكون تاريخية، وهي ما يُعرف بالـ Landmark Decision، والتي تصدرُ غالبًا من المحكمة العليا الأمريكية، فتُؤسس أو تنقض مبدأً قضائيًا أو مفهومًا قانونيًا، قرارًا يمتد ويتوسع تأثيره. وإما ألا تكون تلك السوابق القضائية تاريخية، ولكنها مهمة في موضوع المقرر، مؤسسةً أيضًا لمبدأ جديد أو ناقضةً لمفهوم استقرّ وجرى عليه العمل في المحاكم. فيُناقش الأستاذ طلابه القضية المطروحة بوقائعها ومنطوقها وتسبيبها، وما إذا كان الطالب يوافق المحكمة أم لا، وكيف ستقرر المحكمة إذا كانت هناك وقائع افتراضية مختلفة. ثم يُسأل الطلاب عن آرائهم وإضافاتهم بعد ذلك، من غير تطرق لتعريفات أو تقسيمات أو نظريات. ونستطيع أن نخلص إلى أنه من أهم إيجابيات المنهجية الأمريكية في كليات القانون هو تُعريض الطلاب للأحكام والسوابق القضائية الكثيرة لتدارسها وتحليلها وتقييمها. وبالرغم من أن التقنين القانوني قد بدأ إدخاله بازدياد في تشريعات دول المدرسة الانجلوسكسونية، مما يُعرف بالـ Common Law countries، والمعتمدة في قضائها على السوابق القضائية؛ كأمريكا وبريطانيا، إلا أنه لا تزال السوابق والأحكام القضائية هي محل الاعتماد في التدريس والتعليم في كليات القانون؛ مما يؤكد على مكانتها وقوة مخرجاتها. وإن من نافلة القول معرفةُ أن الكثير من أعضاء هيئة التدريس في كليات القانون في أمريكا قد جمعوا بين الخبرة العملية والشهادة الأكاديمية، من خلال جمعهم للتدريس داخل كليات القانون، وممارستهم للقانون خارج كليات القانون كمحامين أو قضاة أو مستشارين قانونيين، مما يُعطي دورًا ويُضفي إثراءً لاستيعاب وفهم وتطبيق المادة القانونية العلمية، وعدم الاعتماد على المعلومات النظرية البحتة في الشرح والتدريس.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال