الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
بدأت حملة المطالبة باستبدال مصادر الطاقة الأحفوري بما يسمى بالنظيفة مع إعلان رئيس الولايات المتحدة الأسبق “ريتشارد نيكسون” في عام 1970، واستمر تعالي الأصوات وبنبرة تزداد خشونة في هذا التوجه حتى وصلنا المرحلة الحالية والتي يُطَالب فيها باستبدال فوري للطاقة القذرة كما أصبحت تسمى مصادر الطاقة الأحفوري، وهو عنوان جاد بدأ العالم الغربي في تبنّيه براديكالية تشوبها الكثير من علامات التعجب اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وحتى بيئيا.
ولكن، ما مدى استدامة الدفاع عن الطاقة النظيفة وبهذه النبرة حتى 2050؟
بداية، لا بد من القول بأن الاهتمام بالبيئة والحفاظ عليها مسألة لا جدال فيها والجميع متفق على هذا المبدأ، فمسألة التلوث خطيرة على النوع البشري وعلى كل أشكال الحياة على وجه كوكبنا، ولكن الغريب أنه بدلا من التحدث حول عمليات تكاملية المصادر والبدء الجاد بإخراج الفحم من معادلة مصادر الطاقة والذي يعتبر أكبر مساهم منفرد في تغيّر المناخ الناتج، حيث يعد مسؤولاً عن 46% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في جميع أنحاء العالم ويمثل 72% من إجمالي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري (GHG)، لا يواجه هذا المصدر – الذي يعتمد عليه الغرب والصين والهند كثيرا – حربا ضروسا مثل ما يواجهه النفط والغاز، ولكن هذه ليست قضيتنا في هذا المقال.
في الآونة الأخيرة، عملت أحزاب سياسية وهيئات مهتمة بالبيئة والمناخ خاصة في أوروبا (التي لها مفهومها الخاص بالطاقة النظيفة ومحاربة النفط تحديدا) والولايات المتحدة (التي لها مفهومها الخاص بالطاقة المتجددة وتكاملية المصادر ولكن ظهر فيها من بدأ يدعم النظرة الأوروبية خاصة مع وصول بايدن لدفة الحكم) – ودعمتها حكوماتها – بوضع خططا جريئة للانتقال السريع إلى الطاقة النظيفة تحت راية ما يسمى بالصفقة الخضراء الجديدة، معتقدين بأن العالم سيصبح أخضراً بمجرد أن يستبدل العالم الوقود الأحفوري بما يسمى بالطاقة النظيفة.
قد تبدو هذه السردية منطقية في ظاهرها المبدئي، ولكن هناك أسباب وجيهة تدعو العالم كله لإعادة التفكير فيها، لما لها من علاقة بمفهوم الطاقة النظيفة نفسها وما سينتج عنه من تبعات غير مقبولة، فبالرغم من أن عبارة “الطاقة النظيفة” تستحضر صورًا جميلة لأشعة الشمس الدافئة والرياح المنعشة والطيور المغردة، إلا أن البنية التحتية التي يحتاجها العالم لهذا التوجه ليست كذلك، بسبب أن الانتقال إلى هذه المصادر من الطاقة سيتطلب زيادة هائلة في استخراج المعادن الأرضية ومنها ما هو نادر، إضافة إلى تكاليف بيئية واجتماعية مصاحبة ومكلفة.
فقد أصدر البنك الدولي تقريرًا عام 2017 وتُعُمّد إهماله من أطراف عديدة مدافعة عن الطاقة النظيفة، مفاده أن التحول السريع إلى مصادر الطاقة النظيفة سيتطلب استخراج مواد ستكون مطلوبة لبناء ما يكفي من مرافق الطاقة الشمسية وطاقة الرياح لضمان إنتاج سنوي يبلغ حوالي 7 تيراواط من الكهرباء بحلول عام 2050، ولكن ما يتطلبه الأمر للوصول إلى هذا المستوى من الطاقة اللصيقة بمبدأ الصفر الكربوني بحاجة إلى 34 مليون طن متري من النحاس، 40 مليون طن من الرصاص، 50 مليون طن من الزنك، 162 مليون طن من الألومنيوم وما لا يقل عن 4.8 مليار طن من الحديد.
أما بالنسبة للنيوديميوم وهو العنصر الأساس في توربينات الرياح، سيحتاج إنتاجه أن يرتفع بنحو 35% فوق المستويات الحالية واحتمالية مضاعفة النسبة واردة، والأمر ذاته بالنسبة لمعدن الفضة النفيس المستخدم في الألواح الشمسية، الذي سوف يرتفع استخراجه بنسبة تصل حتى 105%، لتختفي احتياطاته في غضون 10 سنوات متى وصلت نسبة التعدين لهذا المستوى المرتفع جدا، وعنصر الإنديوم الضروري لتكنولوجيا الطاقة الشمسية، سيرتفع إنتاجه لأكثر من 920% عن إنتاجه الحالي حسب ما جاء في التقرير.
والبطاريات المطلوبة لتخزين الطاقة الكهربائية فموضوع مستقل بحد ذاته، لأنها مطلوبة لتأمين سلاسة تدفق الطاقة خاصة عندما تغيب الشمس ولا تهب الرياح بالسرعات المطلوبة، وهذه البطاريات ذات العدد الكبير في منظومات الشبكات الكهربائية ستحتاج استخراج 40 مليون طن من الليثيوم، وهي زيادة مفزعة بنسبة 2700% عن مستويات الاستخراج الحالية، والليثيوم كارثة بيئية بحد ذاته، فإنتاج طن واحد منه – على سبيل المثال – سيحتاج إلى حوالي مليوني ليتر من المياه العذبة، وهذا يعني أن شركات التعدين سوف لا تتردد في استهلاك ما هو غالي بيئيا في سبيل تحقيق غاياتها، ومع احتمالات التسرب الكيميائي من مناجم الليثيوم السامة، فسيكون العالم أمام كارثة بيئية ستشمل في طياتها تحطيم النظم البيئية المائية في مناطق المناجم خاصة في أمريكا الجنوبية وأفريقيا ووسط آسيا.
لم تنتهِ القصة قبل معرفة مدى استدامة الدفاع عن هذا التوجه بشكله الحالي، وللحديث بقية في مقال الأسبوع القادم بمشيئة الله.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال