الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لاشك أن التحكيم (المؤسسي أو الحر) سيدُ الخيارات الأولى لحل كثير من المنازعات. ولقد لوحظت زيادة الاهتمام بالتحكيم وانتشاره في المملكة إبان الخمس سنوات الماضية، وتحديدًا عقب إنشاء المركز السعودي للتحكيم التجاري. فالذي أولته حكومة المملكة مشكورة من اهتمام كبير بشأن وسائل فض المنازعات البديلة كالتحكيم والوساطة وسن أنظمة وقوانين خاصة بها، خير معين على زيادة التثقيف بها والتشجيع للإلتجاء إليها. وما بذلته وزارة التجارة والاستثمار من جهود لدعم التحكيم ووسائله إسهام كبير لتهيئة البيئة الاستثمارية في المملكة. ففي رمضان عام ١٤٣٩هجرية، قامت الوزارة بإدراج “شرط التحكيم النموذجي” في ثلاث من عقودها الاسترشادية (عقد الوكالة التجارية، عقد التوزيع التجاري، وعقد الامتيازات التجارية) وذلك بالتعاون مع المركز السعودي للتحكيم التجاري للإشراف عليه وفقاً لقواعده. وبالطبع فإن هذه العقود ومثيلاتها تحتاج إلى خبراء في حل النزاعات لو طرأت والتحكيم مَجمَعٌ لخبراء في علوم وفنون. ولأهمية تعزيز الاستثمار في المملكة العربية السعودية، أُدرجت هذه الشروط في تلك العقود كضمان استقلالية وحياد ولحفظ خصوصية وسرعة إجراءات.
يجدر الذكر بأن التحكيم، في نظر كثير من المختصين، لم يعد طريقاً “بديلاً” لفض المنازعات بل هو وسيلة أساسية في كثير من العقود صغيرة كانت أم كبيرة. وبالنظر لهذه العقود ومثيلاتها، فإنه غالباً ما يُصبغ عليها وجود الطرف الأجنبي، فكان من السليم إدراج هذا الشرط كوسيلة ترغيبية للمستثمرين الأجانب. وحيث أن كثير من الشركات الأجنبية تُعمل التحكيم لفض منازعات مثل هذه التعاقدات، فهم بالعادة على دراية في التحكيم وحيله. عليه، فإنه من المناسب إيضاح بعض الأساليب التي يمكن لأي طرف من أطراف التحكيم استخدمها كوسيلة للتهرب منه أو للطعن في صلاحية حكم المُحكَم.وفيما يلي بعض من هذه الحيل التي يمكن أن تستخدم سواءً في التحكيم الوطني أو الأجنبي.
الحيلة الأولى: الطعن في صحة العقد.
يشهد كثير من المُحكَمين لجوء بعض الأطراف المتنازعة إلى الطعن في صحة العقد الذي يراد به فعلياً الطعن في صحة التحكيم ومن ثم الالتجاء إلى القضاء. ومثال ذلك لو كان شرط التحكيم مبني على عقد باطل، حينها يقوم الطرف الراغب بتعطيل أداة التحكيم بإشعال فتيلة عدم صلاحية التحكيم لأن العقد الموضوع فيه شرط التحكيم باطل أو لاغٍ. والجواب على هذا الادعاء سهلٌ ومعروف. حيث أن من أولى مبادئ التحكيم المعترف بها دولياً استقلالية شرط التحكيم (Autonomy Doctrine). ومعنى ذلك أن شرط التحكيم مستقل عن العقد الأساسي ولا يؤثر في صلاحية شرط التحكيم بطلان العقد أو فساده. ولقد أكدت المادة الحادية والعشرون من نظام التحكيم السعودي على هذا المبدأ حيث نصت على أنه “يعد شرط التحكيم الوارد في أحد العقود اتفاقاً مستقلاً عن شروط العقد الأخرى. ولا يترتب على بطلان العقد -الذي يتضمن شرط التحكيم- أو فسخه أو إنهائه بطلان شرط التحكيم الذي يتضمنه إذا كان هذا الشرط صحيحاً في ذاته”. وكذلك نُص على هذا الأساس في المادة السادسة عشر من قانون الأونسيترال النموذجي للتحكيم التجاري الدولي. وعليه، لو قام أحد الأطراف بعدم تنفيذ حكم المُحكَم أو الادعاء أمام المحكمة بأن العقد الأساسي الوارد فيه شرط التحكيم مخالف للأنظمة، فإن الجواب يكون بأن شرط التحكيم مستقل عن العقد ولا يمنع من بطلان العقد بطلان شرط التحكيم.
الحيلة الثانية: الطعن في شرط التحكيم.
حينما يعجز بعض الأطراف عن استعمال الأسلوب السابق، فإنهم يسعون للبحث جاهدين حيال خدعة أخرى. ومن الطرق التي يتبعها بعض المتنازعين هي الطعن في شرط التحكيم من حيث مجاله، صلاحيته، أو وجوده. ومثال هذا بأن يُدعى بأن الطرف الموقع على العقد الأساسي لم يعلم بوجود بشرط التحكيم أو أن المتعاقد على شرط التحكيم فاقدٌ لأهليته. حينها يتجه الطعن بأداة التحكيم وأن تشكيل هيئة التحكيم تم بعدم اتفاق ليصار لاحقاً نظره أمام القضاء المحلي. والجواب على هذه الحيلة بأن الاختصاص بالحكم على صحة التحكيم ينعقد لهيئة التحكيم نفسها. ويسمى هذا بفقه التحكيم مبدأ(Competence- Competence Doctrine) والذي يعني بأن للمُحكَم صلاحية الفصل في اختصاصه من عدمه وفق هذا الشرط. ولقد أكد على هذا المبدأ نص الفقرة الأولى من المادة العشرون من نظام التحكيم السعودي حيث ذكرت بأنه “تفصل هيئة التحكيم في الدفوع المتعلقة بعدم اختصاصها بما في ذلك الدفوع المبنيّة على عدم وجود اتفاق تحكيم، أو سقوطه، أو بطلانه، أو عدم شموله لموضوع النزاع”. وهذا المبدأ مقرر كذلك في القانون النموذجي للأونسيترال في المادة السادسة عشر. لذلك، إذا اعترض أحد الأطراف على صلاحية شرط التحكيم، فمن المفترض أن يكون للمُحكَم سلطة النظر في مسألة اختصاصه والبت فيها.
الحيلة الثالثة: الطعن في التحكيم لمخالفته أحكام الشريعة الإسلامية.
شهدت قضية تحكيمية في رمضان عام ١٤٤٠هجرية حينما تمسك الطرف المحكوم ضده بعدم تنفيذ حكم التحكيم ومطالبته بإلغاء الحكم لمخالفته أحكام الشريعة الإسلامية. حيث ادعى الطرف المحكوم ضده بأن الذي أصدر حكم التحكيم “امرأة غير مسلمة” وعليه فإن الحكم اشتمل على مخالفتين. أولها أن الحكم صدر من مُحكَمة إمرأة والثانية أنها غير مسلمة. والجواب هذا الادعاء بأنه بناءً على نظام التحكيم السعودي فإنه يشترط أن يكون المُحكَم كامل الأهلية وحسن السيرة والسلوك، إضافة إلى ما بينته الفقرة الثالثة من المادة الرابعة عشر بأن يكون المُحكَم “حاصلاً على الأقل على شهادة جامعية في العلوم الشرعية أو النظامية، وإذا كانت هيئة التحكيم مكونة من أكثر من محكم فيكتفى توافر هذا الشرط في رئيسها.” فلم يعد صحيحاً أن يكون المُحكَم مسلماً أو سعودياً ولكن يجب أن يكون حاصلاً على شهادة جامعية في الشريعة أو القانون لو كان مُحكَماً فرداً أو برئيس الهيئة لو كانت مشكلة من ثلاثة أو أكثر. أما فيما يتعلق بكون المُحكَم امرأة، فيمكن القول بأن هناك أقولاً فقهية لعلماء الشريعة من المدارس الإسلامية تفضي لعدم إمكانية تولي المرأة منصب القضاء العام، إلا أنه لم يشهد إجماعاً حيال توليها القضاء الخاص كالتحكيم. إضافة إلى ذلك، فقد أصدرت محكمة الاستئناف الإدارية بالمنطقة الشرقية في العاشر من مايو لعام ٢٠١٣م حكمها القاضي بالموافقة على تعيين المحامية شيماء الجبران كأول مُحكَمة سعودية وكان من تسبيبات المحكمة أنه لا يوجد نص شرعي صريح يفيد عدم تولي المرأة منصب المُحكَم.
(يتبع في المقال القادم)
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال