الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تَختَلِفُ مهنة المحاسبة عن جميع المهن الأخرى ذات الأساس العلمي، أو ما يُسمَّى بمهن الياقات البيضاء؛ فهي مهنةٌ تَستَنِدُ بالأساس على الدقَّة، حتى سُمَّي المحاسب بالمُدقِّق للأرقام والحسابات.
هذه الدقَّة التي يقوم المحاسب بالتأكُّد منها، هي ذاتها قد تكون محلَّ نقاشٍ وجدالٍ ليس فقط على صعيد إجادة المحاسب لمهنته وآلية تطبيقها، بل -وهذا الأهمُّ في علوم الحوكمة- على صعيد موضوعية المحاسب وتجرُّده من أيَّة مصالحٍ مُتَعَارِضَةٍ مع مصلحة الشركة أو المشروع الذي يُدقِّق حساباته.
وعندما يَنتَقِلُ العمل المهني المحاسبي إلى نطاقٍ مؤسَّساتيٍّ؛ أي عندما يُصبِحُ المُدقِّق جزءاً من كيانٍ ذو شخصيةٍ مُستَقِلَّةٍ عن مجموع المُدقِّقين الذين يعملون فيه، فإنَّ فرص تعارض المصالح تُصبِحُ أكثر احتمالاً.
وهذا ما يمكن أن يحدث في شركات المحاسبة المهنية، فهي شركةٌ ذات شخصيةٍ اعتباريةٍ، يَعمَلُ المحاسب فيها كشريكٍ وليس كصاحب مكتبٍ، وهذا ما يعني أنَّ عليه خدمة مصلحة الشركة بكيانها المُستَقِلِّ الذي يصبُّ في مصلحة مجموع الشركاء، وليس لخدمة مصلحة المحاسب الشخصية.
بناءً عليه، فقد نصَّ نظام الشركات المهنية السعودي على حصرية الممارسة في الشركات المهنية، ومنها شركة المحاسبة؛ وهذا ما يعني عدم جواز مساهمة المحاسب إلاَّ في شركة محاسبةٍ واحدةٍ يُمَارِسُ من خلالها مهنته (م/7)، وعدم جواز ممارسة مِهنَتَه بشكلٍ فرديٍّ عبر مكتبٍ خاصٍّ أيضاً(م/13-1).
كما نصَّت اللائحة التنفيذية لقانون الشركات الكويتي رقم 1/2016 على عدم جواز ممارسة المهنة في غير الشركة المهنية (م/50)، ونصَّت اللائحة التنفيذية الخاصَّة بشركات المحاسبة على عدم جواز الاشتراك في شركتَيْ محاسبةٍ في نفس الوقت (م/17).
لكن هذه القواعد النظرية قد لا تَمنَعُ حالات تعارض المصالح في شركات المحاسبة؛ حيث قد تحدث حالات تعارض المصالح وفق الاحتمالات التالية:
تعارض المصالح المباشر؛ كأن ينقل المحاسب ملفَّات الشركة (أ) من مكتبه إلى الشركة المهنية الناشئة، ثم يقبل بالشركة (ب) عميلاً للشركة المهنية أيضاً رغم وجود نزاعٍ بين الشركتَيْن على الاستحواذ.
فهنا قد يكون تدقيق حسابات الشركتَيْن مؤثِّراً على نزاع الاستحواذ القائم بينهما؛ كأن يحاول مجلس إدارة الشركة (أ) تطبيق استراتيجية إصدار الأسهم بغرض تضييق فرص الشركة القابضة (ب) بالاستحواذ عليها، ففي هذه الحالة قد تؤثِّر تقارير المحاسب المالي على إمكانية إصدار الأسهم من عدمها، وهكذا ينشأ تعارضٌ بين مصلحَتَيْن كلاهُمَا في سلطة شركة المحاسبة.
يبدو في هذه الحالة ضرورة اختيار إدارة شركة المحاسبة لأحد العميلين، فلا يجوز انتقال ملف الشركة المستَحوِذَة والمستَحْوَذ عليها، وهما في حالة نزاع مصالح ظاهر ومباشر.
ففي حالة تعارض المصالح المباشر، تكون حصرية الممارسة مفيدةً في منع قيام المحاسب بممارسة المهنة من خلال كيانَيْن مستقلَّيْن، وهو ما يمنع احتمال مراجعته لحسابات جهتَيْن في حالة نزاعٍ مثلاً.
تعارض المصالح غير المباشر؛ في هذه الحالة قد يكون لدى أحد عملاء شركة المحاسبة مصلحةً غير مباشرةٍ بالارتباط مع شركة أخرى عميلةٍ لذات شركة المحاسبة المهنية؛ كأن يكون من عملاء شركة المحاسبة شركة أغذيةٍ يَمْلِكُهَا أحد الأشخاص، ثم يتبيَّن أنَّ هذا الشخص هو ابن أحد المساهمين المدراء في شركة المحاسبة.
وهكذا يكون تعارض المصالح قائماً ومؤثِّراً على موضوعية تقرير المحاسبة المالية بشكلٍ غير مباشر، لذلك على شركة المحاسبة عدم قبول العملاء الذين تربطهم علاقةٌ غير مباشرةٍ مع أحد الشركاء المدراء فيها.
ففي هذه الحالة، تُصبِحُ موضوعية الممارسة رهناً بمدى جدية لجان المراجعة والالتزام في شركة المحاسبة والشركات من عملائها، حيث يجب على هذه اللجان تدقيق الأطراف ذوي العلاقة واكتشاف المصالح غير المباشرة.
تعارض المصالح المَخفِيِّ؛ وهو التعارض الذي يحدث في حالة تخطيط أحد المحاسبين المساهمين في شركة محاسبةٍ مهنيةٍ مثلاً للقيام بممارسةٍ غير مشروعةٍ، وذلك عبر استغلال شخصية شركة المحاسبة لإصدار بياناتٍ ماليةٍ غير واقعيةٍ تَخدِمُ مصلحة هذا الشريك.
فقد يقوم الشريك في شركة محاسبةٍ مهنيةٍ بتأسيس شركة تمويلٍ عقاريٍّ، ويرغب في منح تمويلٍ يتجاوز الحدود القصوى بالنظر إلى احتياطيات شركة التمويل؛ فهنا يمكن للشريك في شركةٍ محاسبةٍ أن يُسَخِّر أحد الأشخاص لتأسيس شركة التمويل وتسجيلها باسمه في الظاهر لكنها تكون في الحقيقة ضمن ملكية المحاسب.
ثم تقوم شركة التمويل بإدارة الشخص المُسَخَّر بتوكيل شركة المحاسبة التي يَمتَلِكُهَا المالك الحقيقي لشركة التمويل، ثم يقوم المحاسب وهو المالك الحقيقي لشركة التمويل بإصدار بياناتٍ ماليةٍ خاطئةٍ ومُضلِّلةٍ لشركة التمويل بهدف منحها هامشاً غير مشروعاً لتمويل عملائها.
تعتبر هذه الحالة من أخطر حالات تعارض المصالح، ليس على مستقبل شركة المحاسبة فقط، ولكن على توازن القطاعات الاقتصادية التي تتلاعب بها شركة المحاسبة، كما أنَّ هذه الحالة صعبة الاكتشاف لأنَّ تعارض المصالح مَخفِيٌّ فيها.
وفي حالة تعارض المصالح المَخْفِيِّ، تُصبِحُ حصرية الممارسة شبه مَعدومةِ الفائدة، فالمصالح المُتَعَارِضَة مرسومةٌ مع سبق الإصرار، ويصعب اكتشافها بسبب استنادها على اتفاقياتٍ مَخفِيَّةٍ، بينما تكون العلاقات في الظاهر أبعدُ ما يكون عن تعارض المصالح.
بناءً على ما سبق، فإنَّ مواجهة تعارض المصالح في شركات المحاسبة بحاجةٍ إلى المزيد من القواعد التفصيلية التي تتعمَّق أكثر في جودة إدارة هذه الشركات؛ حيث إنَّ فرض وجود لجنة مراجعةٍ خارجيةٍ ومُستَقِلَّةٍ بشكلٍ تامٍّ عن الشركة، يمكن أن يَفضَحَ وجود أيَّة تلاعباتٍ في عمل شركة المحاسبة، وهو ما سيكشف عن تعارض المصالح المَخفِيِّ.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال