الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تأخذ الكثير من الأسواق المالية على عاتقها حماية المستثمرين بالذات، وعلى وجه الخصوص المستثمر العادي، الذي غالبًا ما يستثمر أمواله ومدخراته في أسواق الأسهم لفترات طويلة؛ دون وجود الخبرات الفنية أو التعليمية. كما ترى معظم نظريات الحماية القانونية، ضرورة تشجيع المستثمر على الاستثمار الطويل؛ مما له الأثر الكبير على القيمة السوقية لأي سوق، وسيولته، ومتانته. لهذا يأخذ صناع القرار في أي دولة على عاتقهم، تطوير السوق المالية، فهي تعتبر حجر الأساس لتطور الاقتصاد، ورافدًا كبيرًا للشركات والمطورين في تنمية شركاتهم والتوسعات، من خلال الربط بين المستثمرين – ممن ليس لديهم الخبرة الفنية أو الوقت لإدارة أمواله بها – فيكون السوق وكأنه حلقة وصل بينهم. وتزداد أهمية تطوير الأوراق المالية وخاصة الأسهم، في تعويض دور الدولة في تقديم العقود أو منح القروض الرخيصة، الذي بدأ يتلاشى في العقود الأخيرة؛ فضلًا عن توفير الوظائف، من خلال تحسين البيئة المالية للشركات.
كما تذهب النظرية التقليدية القانونية الحمائية، إلى أن المستثمر عندما يستثمر أمواله وعرق جبينه في الشركات، يتخلى إلى حد كبير عن إدارة أمواله؛ فتكون تحت تصرف إدارة مجلس الشركة والمؤسسين في تلك الشركات، ومن هنا يبرز الدور الحمائي الضروري للمستثمرين. بشكل عام هناك الكثير من الأدوات المترابطة، والتي تٌشكل الباكورة لحماية المستثمرين ومدخراتهم؛ من مؤسسات قانونية، ومالية، ومحاسبية، ومكاتب محاماة، والقدرات المميزة في التحقيق المالي وغيرها. من الناحية القانونية البحتة، لو ينظر الشخص من الأعلى إلى أي سوق مالي، يجد هناك العديد من الأنظمة واللوائح التي تنظم شركات المساهمة المدرجة بشكل عنكبوتيٍ؛ كقواعد حوكمة الشركات، وقواعد الإدراج والاندماج والاستحواذ، ونظام الشركات، وغيرها، والتي دون شك، تعتبر جزءًا رئيسيًا، لا تتجزأ من هذه المنظومة الحمائية للمستثمرين في الأسواق المالية.
ولكن، ثمة هناك اختلاف فكري وعملي، لأهمية إلزام الشركات بتلك القواعد الحمائية في الأسواق المالية. بعبارة أخرى، إن نوعية القوانين التي تلتزم بها الشركات قد تكون مرنة، حيث يكون للشركات خيار الالتزام بها من عدمه – ما دام هنآك إفصاح، أو تم النص عليه في النظام الأساسي للشركة – وبين القواعد الملزمة، حيث لا يكون للشركات المدرجة أي خيار سوى اتباعها، مالم تحصل على استثناء من هيئة سوق المال مثلًا.
عبر التاريخ القصير، تأثرت المدارس القانونية بالنظرة الاقتصادية، والتي تتمحور في إعادة وتوجيه الأصول والموارد الاقتصادية، لمن يستخدمها بشكل فعال- للمنشأة الأفضل على سبيل المثال- لهذا ظهر الترويج من أساتذة الاقتصاد بشكل كبير بالذات في السبعينيات، يأخذ منحىً أكثر تحررية في الفكر القانوني. لهذا نرى اليوم قدرًا أقل في القيود القانونية على مستوى القانون التجاري الأسواق المالية.. إلخ، والتوجه نحو بيئة قانونية وقواعد غير ملزمة.
فحسب هذا الفكر، إن كل منشأة تواجه صعوبات وتحديات مختلفة، لهذا من غير المعقول وضع قواعد موحدة مشابهة، لهذا يجب تخفيف الأعباء على تلك الشركات؛ عبر وضع قواعد تتغير بحسب حجم الشركة ونشاطها.. إلخ. ومما عضد من انتشار ذلك الفكر بشكل أكبر، هو الترويج، أن الشركات الكبرى والصناديق الاستثمارية الدولية، ستذهب إلى الدول بقيود قانونية أقل من غيرها. ومن الطبيعي مع هذا الفكر، أن يحدث تراجعًا في دور هيئات السوق، وينحصر دورها على الشق الرقابي.
ولكن مع كل هذا الجدل القانوني الاقتصادي، هناك نموذجًا يشذ عن هذا الفكر، وهو تجربة السوق المالي البرازيلي، والذي يتضمن عدة أسواق مختلفة، بقوانين حمائية متدرجة من مرنة إلى أكثر تشددًا. يحتوى السوق البرازيلي على ثلاثة أسواق مالية مختلفة، أهمها والذي هو محل حديثنا هنا، سوق Mercado ، والذي يُعَدُّ دون شك، خروجًا عن هذا الجدل الاقتصادي – القانوني.
في معظم الدول، يمكن للشركات طرح أوراقها المالية إلى جانب السوق الرئيسي، في سوق موازٍ، غالبًا ما تكون بقواعد حوكمية وإدراج، أكثر مرونة وغير ملزمة، كما هو الحاصل في الواقع السعودي، وتحديدًا “سوق نمو.”؛ فعلى سبيل المثال، بالنظر إلى قواعد الإدراج في السوق الموازي، لم تلزم هيئة سوق المال السعودي بشكل عام بقواعد حوكمة الشركات على الشركات المدرجة في “سوق نمو”. وهذا هو النمط في معظم الأسواق الموازية، باتباع قواعد أكثر مرونة لأسباب متعددة، وهي تشجيع وتأهيل الشركات، على الطرح في السوق الموازي قبل الرئيسي، مما يمنح المؤسسين فرصة للتخارج، وغير ذلك من الأسباب.
غير أن الأمر مختلف تمامًا بالنسبة للتجربة البرازيلية، وبالتحديد السوق Novo Mercado، حيث تطبق قواعد قانونية أقرب ما تكون صديقة للمساهم الصغير، عبر تطبيقها معايير حمائية متشددة جدًا في الحوكمة، والإدراج، والإفصاح، وعروض الشراء، كالاستحواذ، وغيرها من الحالات التي قد تكون مدخلًا لإضعاف النظام الحمائي للمساهم الصغير.
تعود فكرة إنشاء هذه السوق، إثر قرار استراتيجي من حكومة البرازيل، وذلك لعدة أسباب، أهمها هروب رؤوس الأموال، وعزوف الشركات البرازيلية من الإدراج في الأسواق البرازيلية والاتجاه إلى الإدراج في الأسواق الأجنبية – المُكْلِف – فضلًا قدرة ذلك على عدد محدود من الشركات، والضغط الكبير من الشركات القديمة العملاقة، لعدم تغيير أنظمة الشركات، والإدراج، والحوكمة، لمصلحة المساهمين. لهذا كان هناك عدم حماس من قبل المساهمين للاستثمار؛ بسبب ضعف المنظومة الحمائية، مما كان له الأثر البالغ على القيمة السوقية للسوق البرازيلي وحجم الاقتصاد ككل، فضلًا عن الأثر السلبي على الشركات المتوسطة والصغيرة، والتي تضطر للحصول على قروض قصيرة من البنوك بفوائد مرتفعة.
بشكلٍ مختصر، إن فلسلفة سوق Novo Mercado بسيطة جدًا، فهي تقوم على مبدأين أساسيين، الأول: وضع قوانين ملزمة حمائية، تهدف لحماية المساهم غير المسيطر “الصغير”، في مواجهة كبار المساهمين ومجالس إدارة الشركات. ثانيًا: تخفيض تكلفة الحصول على المعلومات على المساهم فيما يتعلق بالشركة، وبالذات كيف سيتصرف الملاك والمسيطرون على الشركة في أسهمهم وحصصهم، حتى يتحقق الوضوح والشفافية للمساهم، في كيفية اتخاذ قراره عند التصرف في سهمه.
من الملفت للنظر عند تأسيس سوقNovo Mercado ، أنها كانت محط الانتقاد والسخرية، بسبب هذه القواعد الجريئة جدًا، والغير مناسبة في عصر تأثر بالنظرة الاقتصادية الدافعة، نحو المزيد من منح الحرية للأطراف، وقواعد قانونية أكثر مرونة. ولكن النتيجة كانت مختلفة تمامًا، حيث رغبت حتى الشركات في الدول المجاورة للبرازيل، في الإدراج في هذا السوق، والسبب إن تكلفة الإدراج يمكن تعويضها، عبر الطلب العالي على أسهم الشركات في هذا السوق. بعبارة أخرى، فإن أسعار الأسهم للشركات المدرجة فيNovo Mercado ، تعكس القيمة لتلك القواعد القانونية المتشددة. ومنح صانع القرار البرازيلي الخيار مفتوحًا للإدراج لكل الشركات، سواء القديمة أو التي ترغب بالطرح لأول مرة، بشرط الالتزام بقواعد الإدراج والحوكمة لهذا السوق الموازي.
ومما يميز قواعدها القانونية، فإن النزاعات القانونية الناشئة من هذا السوق – على سبيل المثال – لا يتم حلها في لجان خاصة أو في المحاكم البرازيلية، بل يتم حلها عن طريق التحكيم بطريقة أسهل، وأسرع، وأرخص. وهناك المنع من إصدار أسهم مختلفة؛ فلكل سهم صوت واحد مقابل كل سهم، من ضمنها إصدار أسهمًا ممتازة في هذا السوق الموازي Novo Mercado، مقارنة بالسوقين الموازيين ١ أو ٢. فلو قرر المسيطر إلغاء الإدراج للشركة في هذا السوق؛ يجب عليه القيام بعرض شراء عام لشراء كل الحصص، بناء على تقييم مالي من شخص مستقل. وهذا يختلف عن الوضع في السعودي، والتي يكون للهيئة الصلاحية في طلب ذلك. بمعنى الشراء العام للأسهم الأقلية ليس واجبًا بشكل مباشر، بل يكون بطلب من هيئة سوق المال، دون أن توضح لائحة الاندماج والاستحواذ، أي شروط لمنح العارض ذلك الاستثناء.
لا شك أن هناك تكلفة اقتصادية على تلك الشركات، في الالتزام بقوانين الحوكمة وقواعد سوق المال في هذا السوق. ولكن مما يظهر، أن ديناميكية السوق، تعكس أن أسهم تلك الشركات هي الاكثر ارتفاعًا وقيمة، مقارنة بأخواتها من الأسواق الأخرى ١ و٢. لهذا يمكن القول: إن تكلفة الحصول على استثمار ((Capital-Cost منخفض. وبعد تأسيس هذا السوق الموازي؛ منحت الاقتصاد البرازيلي دفعة قوية، واضعة إياه في مرتبة أكثر الأسواق نشاطًا نموًا.
ختامًا، إن من الخلافات الاكاديمية المستمرة، هي الخلاف حول أهمية وضع قواعد قانونية ملزمة أو غير ملزمة، للشركات اتباعها من عدمه. ولكن بالتأكيد هذا الجدل لن ينتهي قريبًا. والشيء المؤكد، أنه حتى تجذب هيئة سوق المال السعودية المستثمر العادي، سيكون هناك دور أكبر عليها، لاسيما المرحلة القادمة تحت الرؤية الاقتصادية ٢٠٣٠، والتي أحد أهدافها، هو دعم الشركات المتوسطة والصغيرة، فضلًا عن ضرورة وجود سوق مميز، يعكس أهمية تلك القطاعات الحيوية التي سيتم خصخصتها، ولا ننسى الشركات الناشئة، والتي قد تحتاج إلى التوسع. فيكون هناك تكلفة أقل على المساهم، بالمخاطرة في الاستثمار في مثل هذا السوق، والتي تفرض قواعد متقدمة ومتشددة في حوكمة وقانون الشركات.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال