الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
إن من طبيعة الحياة ومن سنن الكون التطور والتجدد، وإن المجال القانوني ليس بمنأى عن هذه السنة الكونية، ولذلك فإن الأنظمة والقوانين مستمرة في التطور والتحديث، وهذا التطور في نصوص الأنظمة والقوانين تسهل ملاحظته لكل من يطلع عليها، ولكن هناك تطور آخر قد تصعب ملاحظته، وهو التطور في اتجاهات القضاء، ذلك أن من سمات هذا التطور القضائي أنه يبدأ رويداً رويداً ولا يمكن ملاحظته -في بداياته خصوصاً- إلا لمن لديه الاطلاع والالمام الكافي بما يصدر عن القضاء. ويعتبر التعويض عن الضرر المعنوي أحد أبرز المسائل التي شهدنا فيها تطوراً في اتجاه القضاء والنظام بشأنها. وقبل الشروع في بيان الاتجاهات القضائية في التعويض عن الضرر المعنوي، أود الإشارة إلى أن المراد بالضرر المعنوي هو كل أذى يصيب الشخص في مصلحة غير مادية.
وبمحاولة استقراء اتجاه القضاء في المملكة في مسألة التعويض عن الضرر المعنوي، نجد أن الاتجاه الغالب في القضاء كان يميل إلى الحكم برفض طلب التعويض عن الضرر المعنوي؛ وكان يستند في ذلك على أن التعويض لا يكون إلا عن ضرر مادي فعلاً أو ما في حكمه مما يمكن تقديره، وأنه لا يمكن ضبط مقدار التعويض في الضرر المعنوي. وهذا الرأي هو ما سار عليه مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة.
ثم ظهر اتجاه واجتهاد قضائي آخر ينحو إلى إقرار التعويض عن الضرر المعنوي، وهذا الاتجاه أخذ في النمو والاتساع في القضاء التجاري والإداري خصوصاً، وقد صدرت العديد من الأحكام القضائية المتضمنة التعويض عن الضرر المعنوي في صور متعدد للضرر المعنوي، ومنها الحكم على شركة طيران بتعويض أحد المسافرين على رحلة غير مباشرة إلى خارج المملكة، وذلك بسبب خطأ الشركة بعدم إشعاره قبل ركوب الطائرة بمتطلبات دولة القدوم ومنها أصل الإقامة، مما اضطره إلى التأخر في السفر، وقد رأت المحكمة تعويضه لقاء الضرر المعنوي المتمثل في البقاء في المطار لعدة ساعات، وما صحب ذلك من ألم بسبب تصرف الشركة، وما تحمّله المدعي من همٍّ في سبيل إيجاد الحل والطريقة البديلة للسفر، وقد تصدت المحكمة لتقدير هذا التعويض وحكمت بالتعويض بمبلغ قدره خمسة آلاف ريال. ومنها كذلك الحكم على إحدى الجهات بتعويض شخص وابنه عن الضرر المعنوي الذي لحق بهما نتيجة سقوط الابن في (خزان للصرف الصحي) يقع في إحدى الحدائق، ونزول الأب لإنقاذه، وكان ذلك السقوط بسبب عدم إحكام إغلاق الغطاء جيداً، وقد قضت المحكمة بالتعويض عن الضرر المعنوي مراعيةً كون المكان متسخٌ، وكون الوقت ليلاً، وما تعرضا له من خوف، وقدرت بنفسها مبلغ التعويض وهو مبلغ (15.000) ريال لكل واحد من الأب والابن. ومنها الحكم على إحدى الجهات بسبب إصدار قرار بنقل موظف للمصلحة العامة بينما هو في حقيقته قرار فيه عقوبة وجزاء، حيث راعت المحكمة ما وقع على المدعي من أعباء التنقل، ومشقة الطريق بالنظر إلى جغرافية المنطقة وطبيعة الطقس، وكذلك ما وقع على المدعي من أضرار معنوية بسبب القرار، وقد قدرت الدائرة بنفسها مقدار التعويض عن هذا الضرر، حيث قدرته بما يعادل راتب شهر واحد. كما أن ورشة العمل المنعقدة في ديوان المظالم عام 1436هـ انتهت إلى التوصية بجواز التعويض عن الضرر المعنوي، وأنه يخضع لتقدير المحكمة حسب ظروف الواقعة وملابساتها.
ومما تقدم من أحكام -وغيرها- يتبين وجود اتجاه قضائي يُقر بمبدأ التعويض عن الضرر المعنوي، كما نلحظ أن القضاء يتجه إلى تقدير التعويض بنفسه، تأسيساً على أن المحكمة هي الخبير الأول، وعلى حرية القاضي في صياغة وتكوين قناعته في تقدير التعويض عن الضرر المعنوي، للوصول إلى مقدار التعويض الملائم، الذي يُعتقد قربه من جبر الضرر أو إزالته حكماً، وكما نلحظ أن القضاء يتجه إلى اعتبار معيار الضرر الذي يتوقعه الرجل العادي كأساس لتقدير التعويض، ولكنّ ذلك كله مشروط بعدم تجاوز سقف المطالبة وعدم المغالاة أو استغلال التعويض للإثراء بدون مبرر مشروع.
ومن التطورات التشريعية في التعويض عن الضرر المعنوي ما جاء في المادة (164) من نظام المحاكم التجارية من النص على أنه يجب على المحكمة أن تُضمِّن حكمها في الموضوع الفصل في طلب التعويض عن الأضرار المادية والمعنوية، وأن المحكمة تراعي عند تقدير التعويض جسامة الضرر، ومقدار المبلغ المحكوم به، ومماطلة المحكوم عليه، والعرف، أو العادة المستقرة، ورأي الخبير في حال اقتضاء ذلك. وهذا النص -كما هو ظاهر- يقرر وجوب الفصل في التعويض عن الضرر المعنوي، وبالتالي يمكن القول بأن المستقر في القضاء التجاري -حالياً- هو الإقرار بجواز التعويض عن الضرر المعنوي من حيث المبدأ. وتجدر الإشارة إلى أنه لا يشمل جميع المحاكم، حيث صدر حكم من المحكمة العليا مؤخراً بنقض حكم (في قضية جزائية) تضمن الحكم بالتعويض عن الضرر المعنوي وقد سببت المحكمة العليا لحكمها بعدة أسباب، منها عدم جواز التعويض عن الأضرار المعنوية؛ لعدم إمكانية قياسها ولا ضبطها.
ختاماً، أُؤكد على أهمية دراسة واستقراء اتجاهات القضاء وتطوراتها لكل المختصين وعلى وجه الخصوص المهتمين بمجالات التقاضي، كما أشير إلى أهمية حسم مثل هذه المسائل التي ينظرها القضاء ويكثر ويمتد الخلاف والنزاع فيها، وذلك من خلال النصوص النظامية أو المبادئ القضائية؛ وذلك لتقليل احتمالية تفاوت الأحكام التي تصدر بشأنها.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال