الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
من يصدق أن الأحياء القديمة التي اندثرت واختفت أمام التمدد العمراني والمخططات السكنية الجديدة أنها ستعود من جديد، من كان يصدق أن أصوات الباعة الجائلين وبياع الكبدة والبليلة وبسطة الحجة التي تبيع التسالي في أحد أركان الحارة، وبائع الفرموزة واليغمش والبسبوسة أمام المدارس وركض الأطفال في حارات ضيقة، وتسطيح الكورة في بيت الجيران، ومن ثم تعود ممزقة، حينما يغضب أحدهم من تصرف الأطفال. من يصدق ربما تدخل الأحياء القديمة الى فصول الجامعات وحصص الطلاب في المدارس ليضرب بها المثل في القيم والأخلاق وبعض المهن والحرف التي تتميز بها، وبعض الأمثلة أنها أخرجت لنا معلمين ومهندسين ووزراء من لبن بيوت الطين وحاراتها الضيقة.
بصراحة في كل مدينة من مدننا السعودية هناك أحياء وحارات لا تزال محفورة في الذاكرة إما من الجيل القديم أو من الجيل الحاضر، وبعض الأحياء تموت وتنتهي وتختفي ويذهب معها القصص والحكايات، ويبقى الأثر فقط. وقليل من هذه الأحياء القديمة التي تعيش معنا تصارع المخططات السكنية والأبراج العالية، لتعلن تحديها.
بالأمس بث ولي العهد الأمير محمد بن سلمان روحا جديدة للبيوت القديمة في المنطقة التاريخية في جدة، حينما اطلق مشروع” إعادة إحياء جدة التاريخية ضمن برنامج تطوير المجال المعيشي في المنطقة لتكون مركزا جاذبا للأعمال وللمشاريع الثقافية، ومقصداً رئيسًا لروّاد الأعمال الطموحين.، ويمتد العمل على المشروع إلى 15 عامًا سيتم خلالها تطوير جدة التاريخية وفق مسارات متعددة تشمل البنية التحتية والخدمية، وتطوير المجال الطبيعي والبيئي، وتحسين جودة الحياة، وتعزيز الجوانب الحضرية لجعل جدة التاريخية موقعاً مُلهماً في المنطقة، وواجهةً عالمية للسعودية عبر استثمار مواقعها التراثية وعناصرها الثقافية والعمرانية الفريدة لبناء مجال حيوي للعيش تتوفر فيه مُمكّنات الإبداع لسكانها وزائريها، انطلاقاً من رؤية عصرية للتخطيط الحضري رُوعي فيها مفهوم الحِفاظ الطبيعي وضرورة مواءمته مع احتياجات الإنسان ومُحفّزات النمو التلقائي للإبداع، وبما يجعلها حاضنةً للإبداع يلتقي فيها روّاد الأعمال والفنانون السعوديون ضمن مجتمع إبداعي خلّاق، وفي محيطٍ تتألق فيه عناصر التراث الوطني والطبيعة مع التصاميم الهندسية المعاصرة.
اكتسبت مدينة جدة أهمية واسعة على الصعيد الدولي بعد ظهور الإسلام، إذ تم اتخاذها في عام 26هـ مرفأ لاستقبال الحجاج وبوابة للسفر إلى البقاع المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ومنذ ذلك الحين وآلاف الأشخاص من جنسيات وثقافات متنوعة يمرون عبر جدة في كل عام، إذ استقر العديد من هؤلاء الحجاج والتجار في جدة واضعين حجر الأساس لمدينة عالمية متعددة الثقافات، ومسهمين في بناء تاريخها.
وجدة تمتلك أهمية عالمية لأنها البوابة التقليدية لمكة المكرمة، ويتميز منظر المدينة بالطراز المعماري الفريد الذي يعكس التبادل الاقتصادي والثقافي بين آسيا وحوض المتوسط وأفريقيا وجنوبي الجزيرة العربية على مدى قرون عدة. ونعلم جميعا أن المنطقة التاريخية انضمت الى قائمة التراث العالمي قبل سبع سنوات. مثلما يشد السياح رحالهم الى المدن والأحياء القديمة في العالم مثل امباجادورس في مدريد والجيرو أحد أعرق الأحياء في سيئول.
ستشهد جدة التاريخية نقلة كبيرة في إدارتها وفق الخطة والرؤية التي وضعها ولي العهد، خاصو فيما يتعلق بالإبداع والتنمية الحضرية، كما أنها تتيح فرصة استقطاب رواد الأعمال والفنانين، ومما يجعل المشروع حيويا وذا أهمية اقتصادية وتنموية، وهو انه سيتم إعادة الواجهة البحرية القديمة مثلما كان الحجاج يمرون من خلالها باتجاه مكة.
وربما نجدها فرصة لنهمس في أذن المسؤولين والمهتمين بمنطقة جدة التاريخية، كلنا نعرف أن وضعها الحالي هي بيوت تسكنها العمالة، وهي مستودعات، وأكبر سوق لتشغيل العمالة المقيمة، لا تجد سوى أسماء بيوت أهلها من التجار الأوائل والعائلات المعروفة، أما المحال التجارية فيسيطر عليها وافدون وتستر تجاري. من المهم أن تجني المنطقة التاريخية من هذا المبادرة التي اطلقها ولي العهد المزيد من الأموال وتخلق المزيد من فرص العمل للشباب، وهذا العمل لن يأتي بطريقة عشوائية، إنما بطريقة مدروسة، نحتاج إلى شركة متخصصة في إدارة المواقع الأثرية والتاريخية وتطويرها وإدارتها بطريقة احترافية عالمية، بحيث تتاح فرصة تأهيل وتدريب شباب على بعض المهن والحرف الأثرية والتاريخية وتطوير المنطقة بما يوفر جميع وسائل السلامة والخدمات والمرافق التي تسهل للسياح التنقل والتمتع بالمنطقة من دون إرهاق أو تعب أو حتى ملل.
من المهم أن يتم تدوين التراث وإخراجه بكل الوسائل سواء أكانت مسموعة أم مقروءة أم حتى على شكل قصص وحكايات.حينما نسافر إلى الخارج ونزور مناطق أثرية وسياحية، نجد أشخاصاً من المدينة نفسها، وسكانها وأهلها يعملون في مهن وحرف، وأتمنى أن أرى سعوديين وسعوديات في هذه المناطق، سواء أكان من يرسم بالتراب على الزجاجات، أم في المحال التجارية وأن نرى طريقة آمنة لتنقل السياح وأماكن وقوف سياراتهم والمطاعم، والمهم في كل هذا أن نفرغ هذه المنازل القديمة من العمالة المقيمة والوافدة، وأيضاً نفرغها من البضائع المكدسة فيها، ونحوّلها إلى غرف فندقية تراثية أو تحويلها إلى متاحف، أما عن جدة أو عن البيوت القديمة وملاكها.
ومن نافلة القول إن مشروع ولي العهد أعاد الروح للأحياء القديمة في السعودية وهي فرصة أن يشارك بما لديهم من إبداع قصصي أو حرفي أو مهني وحتى فلكلور وغيرها من المرويات، جدة التاريخية في طريقها لتكون أحد الأحياء المهمة التي لتصبح حيا عالميا يقصدها السياح من كل العالم.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال