الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يُعتَبَر التخصُّص من أهمِّ الركائز التي تَستَنِدُ عليها إدارة شركة المساهمة؛ حيث إنَّ اللامركزية الإدارية التي جاءت الحوكمة حتى تُكَرِّسَهَا لا تعني الفوضى، بل تعني منح كلِّ موظَّفٍ الفرصة حتى يعمل وفق تخصُّصه.
وفي مجال احترام التخصُّص، تظهر مهنة المحاسبة في مرتبةٍ حسَّاسةٍ ضمن دائرة العمل؛ حيث إنَّ للمحاسبة أصولها ومعاييرها الدولية والمحلية.
بالمقابل، فإنَّ حساسية المحاسبة وتأثير التقارير المالية الجوهري على مستقبل الشركة، قد يجعل من أيِّ خطأٍ في تطبيق أصول المحاسبة حدثاً مؤثِّراً في سمعة الشركة بشكلٍ عميقٍ؛ فالاتِّهام سيكون موجهاً للشركة بأنَّها تُفْصِحُ عن بياناتٍ ماليةٍ كاذبةٍ ومُضلِّلةٍ للجمهور، الأمر الذي يطعن في شفافيَّتها ويهزُّ مركزها المالي.
بناءً عليه، فقد أفرد نظام الشركات العديد من الضمانات لإحاطة التقارير المالية السنوية للشركة بهالةٍ من الجدية والحرص، ومنها ضرورة إعداد الإدارة المالية للشركة التقرير السنوي ووضعه تحت تصرُّف مراجع الحسابات قبل 45 من انعقاد الجمعية العمومية (م/126-2 نظام الشركات).
كما أنَّ نظام الشركات قد وضع عيناً مفتوحةً على الشركة وإدارتها المالية من داخل الشركة، وهي “لجنة المراجعة” التي تتشكَّل بشكلٍ كاملٍ من الأعضاء غير التنفيذيِّين لمجلس الإدارة سواءً أكانوا مساهمين في الشركة أم لا (م/101 نظام الشركات)، وقد أكَّدت لائحة حوكمة شركات المساهمة المدرجة على واجب لجنة المراجعة بالتحقُّق من سلامة ونزاهة التقارير والقوائم المالية (م/55 لائحة).
لكن تبقى كلُّ هذه القواعد عبارة عن ضماناتٍ نظريةٍ لا تَفْرِضُ مسؤوليةً على كبار المدراء في الشركة، في الوقت الذي ينشأ التواطؤ على المخالفات المحاسبية في الشركة من هؤلاء المدراء على الأغلب.
حيث إنَّ المحاسبين الداخليين للشركة هم عبارة عن موظَّفون عاديُّون، قد لا يجرؤون على القيام بمخالفاتٍ جسيمةٍ دون حماية من الإدارة العليا للشركة، كما أنّه ليست لهم مصلحة كبيرة في إظهار المركز المالي للشركة على غير حقيقته، في حين أنَّ هذه الأمور الجوهرية تخدم إدارة الشركة في تحسين صورة الشركة عبر تضليل المساهمين والجمهور.
أي أنَّ المخالفات المحاسبية رغم كونها ممارسات تخصُّصية، إلاَّ أنَّها تنشأ بالأساس من الإدارة العليا في الشركة، وهنا تكون فكرة اللامركزية والتخصُّص محل نقاشٍ، كما يلي:
– إذا ترك النظام تحضير التقارير المالية ومراجعتها لسلطة الإدارة المالية فقط دون تدخُّل من الإدارة العليا المركزية، ستفرض الإدارة العليا -مُمثَّلةً بالرئيس التنفيذي أو رئيس مجلس الإدارة على الإدارة المالية- القيام بمخالفات مالية دون الخوف من المساءلة التأديبية أو الجزائية؛ وذلك لأنَّ الإدارة العليا في هذه الحالة لم تتدخَّلْ في إعداد التقارير المالية بشكلٍ مباشرٍ ورسميٍّ، وإن كانت قد وجَّهت الإدارة المالية لمخالفة قواعد المحاسبة بشكلٍ مخفيٍّ غير مباشرٍ.
وهكذا في هذه الحالة، لن يسأل عن المخالفات المحاسبية سوى الإدارة المالية رغم أنَّها ليست الفاعل صاحب المصلحة، والسبب هو عدم وجود أيِّ دليلٍ على تدخل الإدارة العليا في إعداد التقارير المالية.
حيث إنَّ الإدارة العليا تكون مسؤولة في هذه الحالة عن صحَّة التقارير المالية، رغم أنَّ إعداد هذه التقارير يُعتَبَر مسألةً تخصُّصيةً يُفترض ألاَّ تتدخَّل فيها إدارة الشركة أساساً.
وقد اختار نظام الشركات السعودي الحلَّ الثاني، حيث فرض واجب التوقيع على التقرير المالي السنوي للشركة تجاه كلٍّ من (م/126-3):
*رئيس مجلس إدارة الشركة،
*الرئيس التنفيذي،
*بالإضافة إلى المدير المالي.
ومن الناحية النظامية، يكون كل من رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي مسؤولاً عن أية بياناتٍ ماليةٍ غير دقيقةٍ في التقارير الصادرة عن الإدارة المالية للشركة، يُضاف لهما بطبيعة الحال المدير المالي.
وقد أكَّدت لائحة حوكمة الشركات هذه القواعد، حيث فرضت على مجلس الإدارة مهمَّة التحقُّق من سلامة ونزاهة القوائم والمعلومات المالية الخاصَّة بالشركة (م/30-4 لائحة).
وفي هذا المقام، فقد ساير نظام الشركات الاتجاه العالمي في فرض مصادقة رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي على صحَّة التقارير المالية، حيث صدر في الولايات المتحدة الأمريكية قانونٌ خاصٌّ في هذه المسألة هو Sarbanes – Oxley Act 2002.
وقد كان سبب صدور هذا القانون هو اكتشاف فضائحٍ محاسبيةٍ واسعةٍ النطاق أدَّت إلى حدوث انهيارات لبعض الشركات في أسواق المال الأمريكية، مثل فضيحة شركة Enron.
وبغضِّ النظر عن ظروف هذه القاعدة ومُسبِّباتِهَا، إلاَّ أنَّها تبقى انتهاكاً واضحاً لمبادئ الفصل بين الإدارة العامة والتسيير التخصُّصي للإدارات الفرعية.
فكيف يمكن لرئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي أن يتأكَّدا من صحَّة البيانات المالية إذا كانا غير مُتخصِّصين بالمحاسبة؟
ثم ألا يوجد مبالغةٌ في افتراض وجود تواطؤٍ دائمٍ بين الإدارة العليا وبين الإدارة المالية الفاسدة؟
الحقيقة، أنَّ نظام الشركات السعودي قد اختار اعتبارات السلامة المالية وانضباط الشفافية، وكلَّف الإدارة العليا بتحقيق هذه الأهداف تحت طائلة المسؤولية الشخصية المباشرة.
وفي الواقع، قد تلجأ الإدارة العليا إلى لجنة المراجعة حتى تتأكَّد من صحة البيانات خوفاً من المسؤولية، وهكذا تدخل الإدارة في دائرةٍ مغلقةٍ من الاستشارات والتكليفات المحاسبية، حتى أنَّ لائحة الحوكمة قد أشارت إلى أنَّ من مهام لجنة المراجعة “إبداء الرأي الفني -بناءً على طلب مجلس الإدارة- فيما إذا كان تقرير مجلس الإدارة والقوائم المالية للشركة عادلة ومتوازنة ومفهومة…” (م/55-أ-2 لائحة).
بناءً عليه، يبدو لنا بعض الحلول لهذه الإشكالية؛ مثل:
*حصول مجلس الإدارة على استشارة مالية من شركة استشاراتٍ مُستقلَّةٍ عن الشركة وعن محاسِبِي الإدارة المالية الداخليِّين أو مراجعي الحسابات الخارجيِّين.
*إذا كانت ميزانية الشركة تسمح، فيمكن إنشاء لجنة تنسيق للعمل المحاسبي بين كافَّة الدوائر المالية في الشركة، بحيث تتبع لرئيس مجلس الإدارة شخصياً.
*تعيين الرئيس التنفيذي من ذوي التخصُّص في المحاسبة.
*فرض توقيع لجنة المراجعة على التقرير المالي السنوي للشركة قبل إحالته على الجمعية العمومية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال