الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
بعد استحواذ الفيسبوك على عدد من شركات التواصل الاجتماعي كالواتساب والإنستغرام، هل أصبحت الفيسبوك شركة مهيمنة على شبكات التواصل الاجتماعي؟ بداية كفلسلفة قانونية لقوانين المنافسة؛ هي محاولة للمحافظة على التنافسية، وحظر الممارسات الاحتكارية، ووضع التحالفات وصفقات الاستحواذ تحت المجهر. فنجد على سبيل المثال، أنه يعتبر مخالفًا لقوانين المنافسة؛ تخفيض أو تثبيت الأسعار دون سعر التكلفة بشكل مؤقت وممنهج؛ للإضرار بالمنافسين برفع التكلفة على الشركات الأخرى المنافسة؛ بهدف إضعافهم وإخراجهم من السوق. فلا شك أنه هناك دور كبير رقابي وتنظيمي ينتظره المستهلك من قوانين المنافسة، والمعنين بتطبيق تلك الأنظمة. فأين تكمن المشكلة مع شركات التواصل الاجتماعي؟ مثلًا لقياس حجم وقوة وهيمنة شركة ما، يكون ذلك عبر إثبات حجمها السوقي من خلال مبيعاتها والمشتريات…الخ في منطقة جغرافية معينة. ولكن هذا المفهوم ليس من السهل تطبيقه على شركات التواصل الاجتماعي كالفيسبوك، أو تويتر، وغيرها من شركات الشبكات الاجتماعية. ومن هنا ينطلق هذا المقال، في محاولة لتقديم لمحة عامة عن صعوبة تطبيق قوانين المنافسة وإجراءاتها على شركات التواصل الاجتماعية؛ مستعينًا بحكم من المحكمة الأمريكية الفيدرالية مؤخرًا، في القضية بين الفيسبوك واللجنة الفيدرالية، والذي وضع عددًا من المبادئ القانونية المهمة، في آلية تفسير قوانين المنافسة على شركات التواصل الاجتماعي، وتحديدًا الفيسبوك.
بداية، ما معنى قولنا: شركة تواصل اجتماعي؟ من الناحية القانونية. حتى الآن لا يوجد تعريفًا محكمًا وجامعاً، أو حتى متفق عليه لتعريف شركات التواصل الاجتماعي. وهذا مايؤكده القاضي في إلزامه للجنة الفيدراليةFTC ، بتقديم وتحرير تعريفًا قانونيًا لمصطلح التواصل الاجتماعي. وهذا ماحاولت اللجنة فعله؛ فكان تعريفها لشبكة التواصل الاجتماعي: “هي شبكة اجتماعية عن طريق الإنترنت، يستخدمها الأشخاص للتواصل فيما بينهم، للمشاركة في فضاء اجتماعية”. ولكن كان رد القاضي: بماذا تتميز شركات التواصل الاجتماعي عن بعضها البعض، وهل تختلف عن الرسائل النصية بالهاتف المتنقل؟ والسؤال له أثر كبير تحت مظلة قوانين المنافسة؛ فإلى أي مدى ممكن أن ينتقل المستخدم أو المستهلك من شركة إلى شركة أخرى، دون يترتب عليه أثر مالي بشكل سلبي؟ كالتحول من هاتف آيفون إلى هاتف أندرويد، والذي يترتب عليه زيادة التكلفة على المستهلك. هل يسري هذا المفهوم من شبكة تواصل اجتماعي إلى غيرها؟
إضافة إلى ذلك، وعكس المتعارف عليه، فإن شبكات التواصل الاجتماعي كتويتر أو الفيسبوك، تقدم خدماتها مجانًا دون مقابل، وهذه الممارسة حديثة وغير واضحة تحت مظلة قوانين المنافسة أو نظرياتها، حيث من المعتاد أن تقوم شركة مهيمنة بهدف إضعاف منافسيها، بتخفيض الأسعار والسيطرة، ثم رفع الأسعار على المستهلكين، كما حدث تاريخيًا عند تطوير قوانين المنافسة الأمريكية؛ للحد من سيطرة شركة النفط والبنوك العملاقة وسكة الحديد في مطلع ١٩٠٠ ميلادي. على الرغم من التشكيك في مجانية تلك الخدمات، التي تقدمها شركة التواصل الاجتماعي كالفيسبوك على سبيل المثال؛ فهي تستغل معلومات وبيانات المستخدمين تجاريًا. مما يمكننا القول: أن هناك اتفاقًا ضمنيًا بين تلك الشركات وبين المستخدمين حول مجانية الخدمة، مقابل بيع بياناتهم لاستهدافهم من قبل الشركات المعنية، في حدود ما تسمح به قوانين الخصوصية طبعًا.
ومما يصعب تطبيق قوانين المنافسة على شركات التواصل الاجتماعي كذلك، معرفة على سبيل المثال، ما هي الطريقة المناسبة لقياس حجم سيطرة شركة كتويتر أو الفيسبوك، هل هي بعدد المستخدمين؟ وهل رفض شركة الفيسبوك مثلًا، خلق برامج توافقية مع البرامج الأخرى المطورة من الشركات المتوسطة والناشئة، يعتبر رفضًا للتعامل كما هو معروف في قوانين المنافسة؟ وهل يعني الانتشار الكبير للفيسبوك، مؤشرًا أو دليلًا ضمنيًا على حيازتها موقفًا تنافسيًا مهيمنًا؟
وبالعودة إلى القضية المرفوعة مؤخرًا ضد شركة الفيسبوك من قِبل لجنة التجارة الفدرالية الأمريكية، ترى اللجنة مخالفة الشركة لقانون المنافسة -تحديدًا قانون شيرمان- عبر الاستحواذ على شركات منافسة، أو التي يمكن أن تصبح منافسة إذا تركت لتنمو؛ مما منحها هيمنة سوقية تتجاوز ٦٠٪ من سوق التواصل الاجتماعي. وأيضًا تحاول اللجنة إثبات أن صفقات الاستحواذ التي قامت بها الشركة، لم تكن سوى لإضعاف المنافسة، عوضًا عن استغلال مواردها المالية لتطوير “المنتج الأفضل”، وتحييد تلك الشركات المستحوذ عليها من منافستها مستقبلاً. ولم تكتف اللجنة بذلك، بل ذهبت لاتهامها بأن الإجراءات الداخلية، وتحديدًا ما يسمى بواجهة التطبيقات API التي طورتها الشركة، ماهي إلا لحجب ومنع البرنامج المنافسة لها من التوافق أو الوصول إلى الفيسبوك، في حال قررت شركة ما تطوير برامج منافسة للفيسبوك، لذلك كانت تشترط الفيسبوك على المطورين عدم تطوير أي برنامج منافسة لها، مقابل السماح بمشاركة API. ولا تقف طلبات اللجنة هنا، بل تريد الحصول على حكمًا ضد الفيسبوك ببيع أو التخلص من الواتس آب والانستغرام.
وكما هو معروف، إن الصعوبة بمكان إثبات الاحتكار بشكل مباشر، لهذا حاولت اللجنة إثبات الهيمنة بشكل غير مباشر؛ عبر استعمال اللجنة نظرية مفادها: أن الشركات الصغرى والمتوسطة في السوق، تعجز عن الدخول أو النمو بسبب تلك السيطرة، وتضيف اللجنة: أن البرامج الأخرى مثل Linkedinأو اليوتيوب، لا يمكن استعمالها عوضًا عن الفيسبوك، فضلًا عن أن الرسائل النصية لا تشابه استعمال الفيسبوك؛ فهي تفتقر للخاصية الاجتماعية عبر المشاركة أو البحث عن الاصدقاء. وهذا ما ترفضه تمامًا الفيسبوك؛ حيث تحتج بأن الأشخاص يستطيعون التواصل بالرسائل، والصور عبر الإيميل الخ.
بعبارة أخرى، إن المحك والسؤال القانوني المختلف عليه بين اللجنة والفيسبوك، إلى جانب محاولة إثبات امتلاك الفيسبوك حصة الأسد على سوق التواصل الاجتماعي، هو: هل للإيميل أو الرسائل نفس الاستعمال لوسائل التواصل الاجتماعي؟ بمعنى آخر، أثر وجود الفيسبوك على خيارات المستهلكين. ومن هنا تكمن صعوبة تطبيق ذلك؛ فما تقدمه شركة الفيسبوك ليست منتجات كما هي متصور تحت قوانين المنافسة كالغذاء أو الدواء لا تقدم بمقابل. وحتى الإيرادات المكتسبة لا يمكن اعتبارها مقياسًا لقياس الحجم السوقي لشركة مثل الفيسبوك، فتلك تقديرات لحجم مبيعات الإعلانات للشركة وليس السيطرة. ولهذا يرى القاضي، أن فشل اللجنة في إيضاح حتى الوقت الذي يستغرقه “المستخدم” على شبكة الفيسبوك، وهل مثلًا متابعة مستخدم لفيديو على الفيسبوك، هل يعني بالضرورة هو على برنامج الفيسبوك، او يقضي وقتًا على شبكة التواصل الاجتماعي؟
وعودة إلى النسبة التي تدعي اللجنة احتكارها من قبل الفيسبوك بنسبة تتجاوز الـ٦٠٪، يطرح القاضي تساؤلًا معقولًا: من الذي يملك النسبة المتبقية؟ فمصطلح “احتكار” كما يفسره القاضي، هو مصطلح قانوني، ولكنه اقتصادي في نفس الوقت. وذهب القاضي إلى أبعد من ذلك، بوضع قراءة قانونية لسياسة رفض التعامل، وشروط أحقية الشركة المسيطرة أو المهيمنة في رفض التعامل مع الشركات الأخرى، ومتى يعتبر رفض التعامل مخالفاً لقوانين المنافسة من خلال انطباق شروطها. فعلى سبيل المثال: هل كانت الشركتان -المسيطرة والشركة المنافسة-لديهما تعاملًا سابقًا الى غيرها من الشروط. وحتى وضح القاضي الظروف الاستثنائية والتي قد ينشا عنها مخالفة لقوانين المنافسة، حتى لو لم يكن بينهما أي تعامل مسبق، تحت مفهوم يسمى استراتيجية أو الممارسات المستمرة في رفض التعامل. وردًا على اللجنة فيما يتعلق باستحواذ شركة الفيسبوك على الواتس آب وانستغرام، يجد القارئ الامتعاض من القاضي على اللجنة، فهي من منحت الموافقة في حينه للشركة، وكأن القاضي يوجه اللوم إلى إليها.
ختامًا، أنه على الرغم من قيام القاضي بالسماح للجنة بإعادة تقديم القضية مرة أخرى؛ فهي لا شك قضية معقدة؛ للمفاهيم أعلاه، ومحاولة تكييف قوانين المنافسة عليها هي مسألة حديثة، بالذات في قياس سيطرة شركات التواصل الاجتماعي كما هو الوضع التقليدي، عندما تقوم شركة ببيع منتج أو سلعة.. لا شك هذه القضية سيكون لها الأثر الكبير، على فهم أثر تطبيق قوانين المنافسة على شركات التواصل الاجتماعي. ولكن يبقى السؤال: هل سيكون توجه المحكم متأثر بالأصوات تحت العدالة الاجتماعية، والحد من سيطرة الشركات الكبرى التقنية؛ أو سيكون فقط نظرة قانونية-اقتصادية بحتة بالوقائع وتطبيق القانون عليها؟
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال