3666 144 055
[email protected]
جدَّدت الأزمة الاقتصاديِّة الراهنة مخاوف دخول الاقتصاد العالمي دوَّامة “الركود التضخُّمي” المعقَّدة والمكلفة اقتصاديًّا واجتماعيًّا، وحفزت كثيرين على طرح تكهُّنات بحدوث هذه الظاهرة الاستثانيَّة في دول معيَّنة. مجمل تلك التكهُّنات – باستثناء توقُّعات نخبة من خبراء الاقتصاد الكلي – لم يستند على تحليل اقتصادي صائب.
ما احتمالات مواجهة الدول الصناعيَّة القياديَّة هذا المأزق في الأمدين القصير والمتوسِّط؟ وما احتمال وقوع الاقتصاد السعودي في كمَّاشة “الركود التضخُّمي” ؟
قبل الإجابة، لنراجع بإيجاز مفهوم “الركود التضخُّمي” ومسبِّباته، ونشخِّص صعوبات معالجة هذه الأزمة المعقَّدة.
“الركود التضخُّمي”، حالة اقتصاديِّة انكماشيَّة استثنائيَّة، تتَّسم بارتفاع معدلي التضخُّم والبطالة، وتراجع نموِّ الناتج المحلِّي الإجمالي في وقت معًا. مثلَّث الأزمات، معضلة مقلقة لراسمي السياسة الاقتصاديِّة لاستحالة حلِّ التحدِّيات الثلاثة بشكل متزامن اولا.وثانيا لأنَّ الآليَّات المتَّبعة في حلِّ أحدها، تؤدِّي إلى تفاقم حجم المشاكل الأُخرى غالبًا. فعلى سبيل المثال، آليَّات السيطرة على التضخُّم برفع سعر الفائدة، تفضي إلى زيادة معدَّل البطالة.
كيف ينشأ الركود التضخُّمي ؟
هناك عدَّة مسسبِّبات تسهم في ظهور هذه الحالة. أوَّلها، تبنِّي سياسات اقتصاديَّة وماليَّة خاطئة ومتصادمة . قيام البنوك المركزيَّة برفع عرض النقد عبرتسهيل الائتمانات المصرفيَّة، وخفض معدَّلات الفائدة، قد يُنتج ركودًا تضخُّميًّا إذا تزامنت خطَّة البنك مع سياسة ماليَّة مُصمَّمة لإبطاء النموِّ برفع نسبة الضرائب. وينشأ الركود التضخُّمي أيضًا من جرَّاء تغييرات طارئة على جانب العرض الكلِّي كارتفاع أسعارالسلع والأجور، أو انخفاض كميَّة الإنتاج، أو عرض العمل. فالزيادة الحادَّة والمفاجئة في أسعارالوقود والطاقة ونفقات الخدمات اللوجستيَّة، ترفع كُلف الإنتاج وتخفض كمِّيته، وتفضي إلى تراجع طلب المنشآت على العمل، ومن ثمَّ ارتفاع معدَّل البطالة وانكماش الاقتصاد.
الجدير بالإشارة أنَّ “الركود التضخُّمي” تجربة حديثة العهد، خاضتها دول معدودة . أول التجارب وأهمُّها تلك التي خاضها الاقتصاد الأمريكي إبَّان سبعينيَّات القرن الماضي. فبعد عقدين من السياسات التحفيزيَّة والنموِّ المتسارع والرخاء، ومعدَّلات بطالة منخفضة، بدأت في نهاية الستينيَّات، تظهر شروخ في جدران الاقتصاد. وبرزت فجوة بين معدَّل الأجور ومستوى الأسعار. ثمَّ جاءت الصدمة النفطيَّة في منتصف السبعينيَّات لتوسع تلك الشـروخ، وتدفع الاقتصاد إلى مازق الركود التضخُّمي.
ما يهمُّنا في هذا السياق، هل “الركود التضخُّمي” حتميَّة تواجه الاقتصاد الأمريكي، واقتصاد الدول الصناعيَّة المتقدِّمة الأُخرى؟
ثمَّة موقفان متباينان من احتمال انزلاق اقتصاد الدول القياديَّة إلى (دوَّامة الركود التضخُّمي):
الأوَّل، متفائل ومنطلق من تقييم مجموعة مؤثِّرة من خبراء الاقتصاد الكلِّي الذين يستبعدون حدوث ركود تضخُّمي في الأمد المتوسِّط، لأسباب منها: عدم وجود مؤشِّرات كميَّة مقنعة. خبرة المؤسَّسات الاقتصاديَّة المتراكمة في التعامل مع الأزمات. تطوُّر آليَّات السياستين الماليَّة والنقديَّة. قدرة المؤسَّسات على تجنُّب السياسات المتصادمة. الضغوط التضخُّمية الراهنة، وتباطئ نمو الاقتصاد الأمريكي يعزيها المتفائلين إلى اختناقات جزئيَّة مؤقَّتة في جانب العرض الكلِّي. وفي سوقي العمل والسلع تحديدًا، وستزول بانحسار تأثير الجائحة، وعودة العمَّال إلى مواقع الانتاج، وارتفاع عرض السلع، وتراجع معدَّل التضخُّم.
الموقف الثاني،متشائم ، يرجح اصحابه حتميَّة سقوط الاقتصاد الأمريكي واقتصاد دول قياديَّة أخرى في رمال الركود التضخُّمي الخانقة. اعضاء هذا الفريق يصرُّون على أنَّ الاقتصاد الأمريكي قد انزلق إلى دوَّامة ركود تضخُّمي ستفرز نتائج أكثر قسوة من نتائج تجربة السبعينيَّات، بسبب ارتفاع نسبة المديونيَّة إلى الناتج المحلِّي الإجمالي حاليًّا، قياسًا بما كانت عليه في حقبة السبعينيَّات.
حتمية “الركود التضخُّمي”، يُرجعها المتشائمون إلى السياسات النقديَّة السهلة، والسياسات الماليَّة التحفيزيَّة التوسعيَّة التي تبنَّتها حكومات الدول الصناعيَّة بدءًا من الرُّبع الأول من السنة الماضية التي رفعت حجم الطلب الكلِّي ومعدَّل التضخُّم.
ماذا عن الاقتصاد السعودي؟ وما مخاطر انزلاقه نحو دوَّامة “الركود التضخمي” في الأمد المتوسِّط؟
الاعتماد على مؤشِّرات الاقتصاد الكلِّي الأساسيَّة الخاصَّة بأداء الاقتصاد خلال الرُّبع الأخير من السنة الماضية، والرُّبعين؛ الأوَّل والثاني من السنة الجارية، يتيح لنا استبعاد دخول الاقتصادي السعودي دوامَّة “الركود التضخُّمي” في الأمدين القصير والمتوسِّط، وللأسباب الأساسيَّة التالية:
أوَّلًا، النموَّ الإيجابي للناتج المحلِّي الإجمالي الحقيقي الذي سجَل في الرُّبع الثاني من هذه السنة ارتفاعًا قدره 1.8 % على مقياس سنوي، مماثلةً بنموِّ الرُّبع الثاني من السنة الماضية، وبنسبة زيادة قدرها 0.6 % مماثلة بالرُّبع الأوَّل من هذه السنة. هذا النمو الإيجابي في الناتج المحلِّي الإجمالي صاحبه تراجع في معدَّل التضخُّم خلال شهر آب “أغسطس” الماضي بنسبة 0.3% مماثلة بمعدِّل الشهر ذاته من السنة الماضية. هذه التطوُّرات الإيجابية لم يرافقها تغير إيجابي ملموس وموازي في مستوى الاستخدام؛ (التوظيف). فمعدَّل البطالة في المملكة ما يزال مرتفعًا نسبيًّا. لكن ممكن السيطرة عليه وخفضه خلال المرحلة المقبلة.
ثانيًا، توفر قدرات اقتصاديَّة وموارد ماليَّة وطاقات بشريَّة، تتيح للحكومة مرونةً في معالجة التحدِّيات الاقتصاديَّة الراهنة. فعلاوة على احتياطات النفط والغاز الهائلة، تحتفظ المملكة برصيد موجودات أجنبيَّة، وحقيبة استثماريَّة كبيرة، وموقع أئتماني متميِّز، ووفرة في الأصول الثابتة والسائلة، إلى جانب قطاعات صناعيَّة وزراعيَّة ذات طاقة إنتاجيَّة عالية.
ثالثًا، خبرة المؤسَّسات الاقتصاديَّة الحكوميَّة المتراكمة في سياسات إدارة الطلب، وقدرتها على توظيف آليَّاتي السياسة النقديَّة والماليَّة بوتيرة متناغمة وفعَّالة لتجنُّب مخاطر الركود التضخُّمي.
الركود الاقتصاد الراهن مع ما أفرزه من تداعيات اقتصاديَّة وماليَّة واجتماعيَّة، يتيح لحكومة المملكة فرصة مراجعة أولويَّات خططها الاقتصاديَّة والتنمويَّة وأهدافها، وإعادة صياغة استراتيجيَّاتها وفق مفاهيم تنفيذيَّة جديدة، وآليَّات قادرة على بناء اقتصاد متين ومستدام ومقاوم للصدمات.
© 2020 جميع حقوق النشر محفوظة لـ صحيفة مال
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734