الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يتَّسم سوق العمل بخصائص تميِّزه من الأسواق الأُخرى، أهمُّها: ارتهان جانبي السوق -العرض والطلب – بمجموعة من المحدَّدات الاجتماعيَّة والمؤسَّسيَّة والقانونيَّة ” Sociological ,Institutional and Legislative Constraint “. هذه المحدَّدات غالبًا ما تحول دون وصول سوق العمل إلى حالة التوازن نتيجة تأثيرها في متغيِّرات العرض والطلب، وعلى قرارات مكوِّنات السوق الأساسيَّة؛ (الحكومة والمنشآت والعاملين) وسلوكهم، كحرِّية انتقال العمَّال، والحدِّ الأدنى للأجور، وتحديد ساعات العمل، والدخول إلى قوَّة العمل والتقاعد، وتشغيل العاملين وتسريحهم وسواها من القرارات.
أحد أهمِّ التحديات التي يواجهها الاقتصاد السعودي في المرحلة الراهنة، تلك المتعلِّقة بسوق العمل الذي يعاني من اختلال هيكلي ناجم عن مجموعة معقَّدة ومتداخلة من عوامل اقتصاديَّة ومؤسَّسيَّة، أفرزت حزمة من التحدِّيات لعلَّ أبرزها:
1. ارتفاع حجم العمالة الأجنبيَّة ونسبة إسهامها في قوَّة العمل التي تفوق حجم مشاركة العمالة المحليَّة، ومشاركتها “الوطنيَّة ” في غالبيَّة القطاعات والنشاطات ، وتهيمن بشكل شبه مطلق على عدد منها، وإلى جانب تواجد عدد كبير من العمالة غيرالقانونيَّة .
2. عزوف شريحة كبيرة من العمالة المحليَّة عن العمل في قطاعات ونشاطات معيَّنة لتدنِّي مستوى الأجور، وأسباب غير اقتصاديَّة أخرى .
3. ارتفاع معدَّل البطالة. وفقًا لتقرير إحصاءات سوق العمل الخاص في الربع الأوَّل من هذه السنة، الصادر عن الهيئة العامَّة للإحصاء. فقد بلغ معدَّل بطالة السعوديِّين الإجمالي ( ذكور وإناث) 11.7%.
4. خلل في هيكل الأجور، وتدنِّي نسبيٍّ لأجور العمالة المحلِّية، وفجوة واسعة بين مستويات أجور العمالة الأجنبيَّة وبين المحلِّية في منشآت القطاع الخاص.
5. تدخُّل مؤسَّسي حكومي مؤثِّر في إدارة عرض العمل من خلال تحديد نسب المساهمة في قوَّة العمل، و تحديد مكوِّن العمالة في القطاعات والنشاطات الخاصة. وكذلك تحديد الحدِّ الأدنى للأجور والرواتب، وعديد من النظم والضوابط الأُخرى .
إيجاد حلول لأزمة البطالة وتبعاتها، شكَّل وما يزال تحدِّيًا جادًّا للاقتصاديِّين وأصحاب القرار السياسي بسبب كلفها الاقتصاديَّة وتبعاتها الاجتماعيَّة المهدِّدة لبنية المجتمع واستقراره وتطوُّره. إصلاح الخلل في سوق العمل ورفع حجم الاستخدام وتحسين مستوى الأجور، تتوقَّف على تصاعد نشاط قطاعات الاقتصاد، وعلى قرارات إدارة المنشآت الخاصَّة ، وعلى نموِّ الاقتصاد الوطني وقدرته على خلق فرص عمل مستدامة أيضًا. إدارة العرض، أو الإجراءات المؤسَّسيَّة منفردة قد تكون غير قادرة على حسم أزمة البطالة من دون زيادة حجم الانتاج، وارتفاع طلب المنشآت الخاصَّة على قوَّة العمل. لكنَّها قادرة على تحقيق تحسُّن جزئي ومرحلي في نسبة مساهمة العمالة المحليَّة في قوَّة العمل .
في ظلِّ هذه الفرضيَّات والثوابت الاقتصاديَّة، ما هي الخيارات المتاحة لراسمي سياسيات إدارة عرض العمل للتأثيرفي مستويات الاستخدام والأجور؟
ثمَّة جانبان مهمَّان يُستحسن مراعاتهما عند وضع خطط تخفيض معدَّل بطالة العمالة المحليَّة، ورفع الحدِّ الأدنى لأجورها.
الأوَّل، من الصعوبة بمكان تحقيق الغايتين، “زيادة الاستخدام، ورفع الحدِّ الأدنى للأجور” بشكل متزامن في ظلِّ الركود الاقتصادي والمالي المحلِّي والعالمي الراهن. تخفيض معدَّل البطالة يتوقَّف على قرارات انتاج المنشآت الخاصَّة وزيادة طلبها على قوَّة العمل المرتبط عكسيًا بمعدَّل الأجور. فزيادة الحدِّ الأدنى للأجور يؤدِّي إلى رفع كلفة عنصـر العمل والإنتاج. وقد يؤثِّرسلبًا في طلب المنشآت الخاصَّة على العمل. كما قد يدفع عددًا منها إلى تعطيل نشاطها، أو إغلاق منشآتها وتسريح العاملين .
أيٌّ من الهدفين المشروعين أكثر أهميّة وأولويَّة في المرحلة الراهنة! تخفيض معدَّل البطالة أم رفع الحدِّ الأدنى للأجور؟ قد تتباين آراء الخبراء والمختصِّين باقتصاد العمل، ووجهات نظر واضعي السياسات في تحديد الخيار الأكثر أهميِّة وأولويَّة. إلّا أنَّ تخفيض معدّل البطالة يُعدُّ أكثرضرورة وإلحاحًا في المدى القصير من رفع الحدِّ الأدنى للأجور التي يمكن رفعها في المرحلة المقبلة، وبعد تحسن أداء الاقتصاد.
الثاني، ضرورة اتِّسام سياسات إدارة العرض بالتوازن، وتقدير تبعاتها على منافع مكوِّنات الاقتصاد الأساسيِّة، وأثرها في سلوكيَّة المنشآت الخاصّة والمستهلكين، وعلى مفاصل الاقتصاد الكلِّي. فإدارة المنشآت الخاصَّة – على سبيل المثال – قادرة على نقل أعباء ارتفاع قائمة الأجور المترتَّبة عن قيام الحكومة في “رفع الحدِّ الأدنى للأجور” على كاهل المستهلكين عن طريق رفع أسعار منتجاتها وخدماتها، ممَّا يؤدِّي إلى تناقص قوَّة المستهلكين الشرائيَّة، وتراجع مستوى رفاهيَّتهم !
من المؤكَّد أنَّ مماثلة الكلف الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة للبطالة بكلف التضخُّم المحتمل، أو تأثُّر القوَّة الشـرائيَّة للمستهلكين من جرَّاء سياسات إدارة العرض، يرجِّح خيار زيادة الاستخدام، وضرورة خلق فرص عمل مستدامة للعمالة المحليَة.
على المدى المنظور، تخفيض معدَّل البطالة يؤدِّي إلى زيادة الدخل الأسري أو الفردي، وإلى رفع مستوى الاستهلاك الذي يؤدِّي بدوره إلى ارتفاع الطلب الفعَّال على السلع والخدمات، وإلى زيادة الانتاج وارتفاع الطلب على قوَّة العمل ونموِّ الناتج المحلِّي الإجمالي.
حلُّ أزمة بطالة المواطنين وخفض معدَّلها إلى “المعدّل الطبيعي للبطالة”، يتطلَّب معالجة جذريَّة شاملة وسريعة للاختلالات الهيكليَّة المزمنة التي يعاني منها سوق العمل في المملكة. تحقيق هذا الهدف بالغ الأهميَّة لا يعزِّز كفاءة الاقتصاد السعودي وقوَّته فحسب، بل الأهمُّ من ذلك، يحقِّق أسس العدالة الاجتماعيَّة ويسهم في تحسين جودة الحياة وسعادة أفراد المجتمع ورفاهيتم .
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال