3666 144 055
[email protected]
الإنسان مجموعة مشاعر ولا يستغنى عن محيطه الاجتماعي لكي يتبادل معه شعور الفرح أو الترح فمن المستحيل أن يفرح الإنسان بمفرده، فلا يجد من يهنيه ويحتفل معه في أيام سروره، أو يترح بمفرده، فلا يجد من يواسيه ويخفف عليه أحزانه ويجرّيه في ليالي أشجانه، لهذا لو نظرنا إلى طبيعته المكونة من جوهرين جسد وروح ولكل جوهر مجموعة قوى وطاقات تدفعه لإشباعها ولا بد من ضوابط حتى لا تضر هذه الدوافع والطاقات بالجوهرين، فالجسد غالبا تكون تلبية وإشباع احتياجاته عن طريق الشهوات والملذات المحسوسة، ويحكمها التقييد وليس الاطلاق وإلا أخذت طبيعة الوحوش والسباع.
أما الروح فجوهرها شفاف و لإشباع احتياجاتها فمن خلال قيم الدين والقيم الاجتماعية وإلا أصبحت كالريشة يعصف بها الهوى في كل مهب للريح، وتلك الطبائع تمر على مراحل ولها سوق يقبل معروضها ومطلوبها، فماذا تجدي الطبيعة العقلية اذا فاتها سوق التركيبة الجسدية، إذ لنموها حد وأمد تنتهي عنده، ومن هنا يحتاج الإنسان ضرورة إلى محيط أسري يتربى ويتهذب فيه خِلقةً وخُلقا ليضبط توازنه واختياراته، فيغتنم فرصة العقلية في تركيبته الجسدية كل في أوانه وزمانه، وإلا عاش فردا ماردا لا يحب إلا نفسه تدفعه النرجسية ولا يشعر بإنسانية إلا بعد فوات الأوان، حالة لا يُستثنى منها الجنسين ولكن ضررها على الأنثى أعظم، فماذا عسى أن تنفع التنازلات للنفس الطامحة أو الشاطحة بعد أن تذبل زهور ربيعها، حتى وإن كان صاحبها ذا مالا ممدودا.
لهذا جاء المكون الأصلي للإنسان وهي الاسرة المؤسسة البشرية الاجتماعية الأولى على وجه الأرض التي من خلالها أمتدت إلى قبائل وشعوب تتباهى في الحاضر بمورثها وأصالة ماضيها، وكلما أنقطعت شجرتها قل حظها وخرب بستانها، إذن الأسرة هي البستان الأول ومصدر النظام الاجتماعي الجيد، وعقدها متسم بالقدسية والاحترام على مختلف الأديان ولا يمكن للزوجين أن يبنيا أسرة إلا في إطاره، ولنيل بركة هذه القدسية يحافظ أطرافها على هذا الميثاق بتأدية واجباتهم كل على حسبه وفي إطار أدواره الموكلة اليه حسب الميثاق الذي جمعهما، وهما مغبوطان به من غيرهما، يتنافسان كل لإرضاء شريكه وكسب مودته، إلى درجة أنهما يشعران أن حقوقهما فيما بينهما قد كُسبت دون الحاجة للتوغل في فلسفتها القانونية للمطالبة بها فلا يضطران البتة إلى تفتيح أو تفطين قانوني ليتقوى أحدهما على الآخر أو يُذكّر أحدهما الآخر، عملية هي الأخرى سبيلها في الهدم أسرع من سبيلها في البناء.
فكلما اشتغل الزوجان كل من جهته على نفسه في اتجاه الاحسان كلما نمت المودة والمحبة والرحمة بينهما وزادت روابط التعلق الروحي لبعضهما، ليرى أحدهما في الآخر معنى الحياة، ويحسب شريكه مصدر سعادته وغايتها فهما متصالحان في كل خصومة أحدهما القاضي الحكم لطرفه الآخر فيرضى طرفه بقضائه وحكمه، فما أطيب فرعهما، هذه طبيعة كانت غالبة وظاهرة يظنها البعض في الزمن الماضي، وذلك لقربهما من الفطرة وعفوية التفكير وعدم التكلف في وسائل الحياة، قد فُقد أثرها في نمط تدفعه المفاخرة الاجتماعية بتعاظمها في استهلاك مفتوح، وزادت فلسفة الأطراف في التحدث عن حقوقهم في مقارنات لأشكال وهمية، مما أرتفع سقف المطالبات بينهم وتعقدت الحياة، وتهمّشت الواجبات فتهشّمت العلاقات، وشعور الرضاء قد هجر الأذواق فلا تكاد تجد أحدا راض عن حالته، وقد تلقينا درسا لا ينسى بجائحة كورونا باعدت فيه هذا التعاظم عن بعضه وتراجع الاستهلاك إلى صورة المنطقية بطابعها المتواضع.
وفي جانب آخر من الاستهلاك المدهش وامتدادا للزوجين أن أمن الأسرة بات مهددا بعملية ابتزاز جنونية يقودها الطفل من مخزون الأجهزة الذكية التي تغريه بألعابها أشبه ما تكون انتحارية نزعت كل ما هو عفوي وفطري، بل صادرة خصوصية الأسرة واقتحمت غرف نومهم، قد لا تكون لا مبالغة حينما يقال قد نرى على البث المباشر في وسائل التواصل الاجتماعي تلك الخصوصية ما كانت لتظهر في زمن ما قبل الأجهزة الذكية، مما يستدعي الأمر إلى تعطيل هذه الألعاب وإدارتها بالرقمنة الذكية لمتابعة صادرها وواردها بحيث يتوقف الجهاز الذكي، الكثير من الآباء والأمهات في عالم التقنية يعيشون حالة أمية، تخيل طفلك في غرفته بجواره الجهاز الذكي هو أبوه وأمه وكل ذلك عنده، يقدم له خدماته كما يشتهي، إلا المشاعر والأحاسيس ستكون بها المعادلة الصادمة، فعالم الافتراض لا يمنحه مشاعر الأم الطبيعية بحاسة اللمس المادي، ثم انتقل بخيالك من دائرة الغرفة إلى دائرة أوسع في محيط البيت ومجموعة الأسرة، أصبحت كالروبوتات كل واحد منهم في مهمة، سوى مهام البيت، إنها أصبحت بالفعل أسرة روبوتية معدية بماديتها منزوعة المشاعر والروح وإن تحرك الجسد فهي مهددة في أخلاقها وقيمها الاجتماعية، أحسب أن هناك كيانات مضطلعة بمسئولية هذه الألعاب وكافة المحتويات تفرض على شركات التقنية أثناء توقيع عقودها واتفاقياتها القانون الذي يغرمها فيما لو فسحت لمشتركيها في سن الأطفال أو سهلت الوصول للألعاب المضرة بعقلية الطفل، واختيار الألعاب وفق المواصفات الآمنة وتكون موجهة أساسا بهدف التعليم والاستثمار في الطفل وليس لغرض مجرد التجارة، فالطفل هو امتداد الأمة وهو زرع مستقبلها وجيله وعليه الأمل في حفظ هويتها، وإلا ظهر لنا جيل يمارس ما هو في الألعاب من سوء المستثمرة علينا لا لنا واقعيا وهنا مكمن الخطورة.
© 2020 جميع حقوق النشر محفوظة لـ صحيفة مال
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734