الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
قرارات الخصخصة الأخيرة لم تكن جديدة على المملكة ، فقد سبق أن خصصت المملكة عدة قطاعات عبر العقود الماضية ولم يصاحبها هذا الضجيج بل كانت محل ترحيب على كل المستويات، لا سيما على مستوى المزايا للموظفين الخاضعين للإنتقال ، فالقطاع الخاص يوفر مزايا وظيفية متعددة تشمل الموظف وأسرته ، والأهم فرص التطوير المهني والتعليم وإكتساب المهارات. إلا إن هذه الدفعة مع الخصصة وعلى غير العادة صاحبها ضجيج برز فيه مصطلح ( الأمان الوظيفي) من قبل موظفي الدولة المشمولين بقرار الخصخصة والذين يفترض أن تنتقل أعمالهم للقطاع الخاص.
برر المحتجون هذا القلق بأن القطاع الخاص لا يوفر الحماية النظامية التي اعتادوا عليها في القطاع العام . هذا المبدأ ترسخ لدى الموظفين كون الدولة أخذت على عاتقها رهن الوظيفة للموظف مما خلق الشعور لدى الجميع بأنها حق مكتسب لا يجوز انتزاعه ، وهو مبدأ لا نوافقه ونرى فيه ما يخل بالعدالة الاجتماعية وتجاوزا على حقوق الآخرين الباحثين عن العمل الذين يملكون المؤهلات والجهد لتقديم الأفضل، فضلا عن أنه مبدأ يجعل من الوظيفة منحة حكومية للمواطن بينما هي في الواقع خدمة للمجتمع تسند لمن يمتلك القدرة على إيصال هذه الخدمة لمستحقيها.
العلاقة العقدية بين الموظف والمنشأة هي محور الجدل ومثار المخاوف لدى موظفي القطاع العام كونهم سينتقلون من نظام الخدمة المدنية إلى نظام العمل بمعطيات تشريعية مختلفة . نظام العمل الذي سيكون الحاكم على العلاقة العقدية في القطاع الخاص ورغم التوازنات الكبيرة في أبوابه والحقوق الكثيرة التي يمنحها للعامل إلا إنه لن يوفر الحماية التشريعية لموظف لا يؤدي عمله أو يصبح فوق حاجة المنشأة . وهذا مبدأ معروف ويحقق التوازن في العلاقة العقدية ، بل إن الحد من سطوة النظام في حق المنشآت في هذا الجانب ساهم في دعم عملية التوظيف وشجع المنشآت على توظيف السعوديين بعد أن رفعت القيود التي فرضت عليهم في النسخ السابقة من النظام قبل تعديله. العلاقة بين الموظف وصاحب العمل نشأت برابطة عقدية لا يمكن بأي حال أن تفرض على طرف، حتى العلاقة الزوجية وهي ( الميثاق الغليظ) لا يمكن أن تستمر متى ما رغب أحد أطرافها في حلها، فالرابطة العقدية منوطة بإرادتي طرفيها وتكون أدعى للاستمرار متى ما حافظت على توازنها بين الحقوق والواجبات.
أقول هذا مع إيماني بمشروعية هواجس الموظفين المشمولين بالخصصة، فالأمان الوظيفي هو هاجس كل موظف ويأتي في أعلى درجات المخاطر التي تخضع للتقييم لأي عرض وظيفي أو علاقة عملية. إلا إننى لا أراه في الحماية التشريعية ، وهذا أمر غير متحقق في الواقع ولا يمكن فرضه على صاحب العمل حتى وإن نصت التشريعات على ذلك فأصحاب العمل لديهم خيارات متعددة – غير المادة 77 – للتخلص من الموظفين الذين لا يرغبون في بقائهم. الأمان الوظيفي الذي أراه يتحقق في ثلاثة جوانب تتحملها الأطراف الثلاثة: الدولة وصاحب العمل والموظفون أنفسهم. ما أريد قوله أن مبدأ الأمان الوظيفي بحاجة لإعادة صياغة مفاهيمه لنتمكن من تحقيقه بالطرق الممكنة والأقرب للمنطق السليم الذي لا يرجح كفة على أخرى ولا يؤثر سلبا على إستقطاب المواطنين وتمكينهم من العمل.
الجانب الأول يتمثل في الظروف الاقتصادية التي تعزز التدفق الوظيفي وتوفر الفرص للباحثين عن العمل ، وكذلك التشريعات اللازمة لترتيب العلاقة العملية بين الموظفين والمنشآت وتحفظ حقوق أطرافها بما في ذلك النظام القضائي ، وكل هذه متحققة وخضعت لإصلاحات كثيرة وأستقرت بما يحقق التوازن ويستوعب هواجس ومصالح أطراف العلاقة. الجانب الآخر من محاور الأمان الوظيفي يتمثل في الدور المؤسسي وتقع مسؤوليته على المنظمة أو صاحب العمل ويرتكز على عنصرين رئيسين : إدارة فاعلة تحقق الربحية بما يضمن نمو أعمال المنشأة وبالتالي الاستقرار الوظفي للعاملين ، وكذلك إجراءات الحوكمة والسياسات الداخلية التي تنظم أعمالها وتحفظ حقوق العاملين بما في ذلك إجراءات التقييم والترقيات والمزايا.
المحور الثالث والأهم في الأمان الوظيفي هو الموظف نفسه ، ويقتضي هذا المحور إدراك الموظف بأن الأمان لا يعني البقاء في المنشأة بحماية نظامية. الأمان الوظيفي مشروع إستثمار ذاتي يقوم على إقتناص الفرص لإكتساب المهارات والخبرات المتراكمة والسمعة المهنية التي تجعل من الموظف سلعة نادرة يبحث عنها أصحاب العمل لا العكس. ما لا يدركه الكثير من الموظفين أن هناك فئة كبيرة من المهنيين لديها القدرة على الإنتقال متى ما أرادت. هذه الفئة لا ترهن مصيرها لإرادة صاحب العمل ولا المتغيرات العملية ولكنها استهدفت الإبداع والتميز الوظيفي ، أتخذت لها مسارا مستقلا لبناء الذات التزمت فيه بأقصى المعايير المهنية والسلوك العملي القويم الذي يجعل منها ورقة رابحة في ميادين المنافسة.
عودا على بدء ، الانتقال للقطاع الخاص يحمل الكثير من الفرص الذهبية للموظفين ويجب أن ينظر له من الزوايا الإيجابية لا زوايا الإحباط والنمطية والروتين الذي كبل الإبداع والنمو الوظيفي. سوق العمل السعودي سوق واعد ومزدهر في كل المنعطفات الاقتصادية ، يوفر فرصا وظيفية لا تتوفر في كثير من أسواق الدول الصناعية وهو بلا مبالغة محط أنظار المهنيين من كل التخصصات والمجالات ومن دولة متقدمة ، وذلك لما يوفره من مزايا مالية وحقوق نظامية وفرص الإنتقال . حاليا ورغم ما يقال عن شح التدفق الوظيفي إلا أنني أقول أنه في أفضل حالاته لمن يملك القدرة على العطاء. في السنوات الأخيرة أنشأت الدولة بقيادة صندوق الاستثمارات العامة كيانات نموذجية رفعت المستوى الحرفي والمزايا الوظيفية وطرحت أعمالا نموذجية ذات بيئات عملية عصرية، وكل هذه الكيانيات ألقت بثقلها وتفردها على سوق العمل مما اضطر شركات القطاع الخاص التقليدية و الهيئات ( العتيقة) لرفع معاييرها وإعادة ترتيب بيئاتها الوظيفية للقدرة على المنافسة في استقطاب أو الحفاظ على الكفاءات . هذه النقلة الكبيرة خلقت سوقا عملية تنافسية غير مسبوقة للمبدعين وحدهم.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال