الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
أظهرت مؤخرا إحصائيات صادرة من مؤسسة الإحصاء التركية (TurkStat) أن معدل البطالة في تركيا بلغ 12.1% في أغسطس 2021م مع انخفاض طفيف في الربع الثالث إلى 11.7٪ بسبب الوظائف الموسمية تماشيا مع الانتعاش في النشاط الاقتصادي بعد التباطؤ المتعلق بأزمة كورونا، حيث ان زيادة التوظيف الموسمي كانت بنسبة 2.9٪ في قطاع الخدمات (حوالي 55٪ من الزيادة بالتوظيف) على أساس ربع سنوي، مقارنة بـ 2٪ في قطاع الصناعة، و1.7٪ في قطاع الزراعة و 0.6٪ في قطاع التشييد والبناء. أما عدد العاطلين عن العمل بحسب اخر إحصائية فقد بلغ 3 ملايين و965 ألفا، وفيما يخص أسعار المستهلك فقد ارتفعت بنسبة 2.4٪ في أكتوبر مقارنة بشهر سبتمبر، وبلغت الزيادة السنوية 19.9٪ مقارنة بـ 19.6٪ في الشهر السابق.
إلى جانب ذلك تشير دراسة لاتحاد النقابات العمالية في تركيا نشرت في أكتوبر 2021م إلى أن متوسط الارتفاع الشهري في أسعار المواد الغذائية في العاصمة كان بنسبة 1.45% وبلغ المتوسط الإجمالي للسنة 24.61% حتى نهاية أكتوبر، ويشير الدراسة إلى أن خط الفقر في تركيا تجاوز للمرة الأولى في البلاد مستوى 10 آلاف ليرة تركية، وتشهد الليرة في هذا الشهر نوفمبر 2021م أسوأ فترة لها، فقد بلغ الدولار الواحد مستويات تفوق 12 ليرة بعد ان كان سعر الدولار في بداية هذا العام 7.42 ليرة بارتفاع بقيمة صرف الدولار أمام الليرة بنحو 60%، وكذلك وصلت الليرة إلى أدنى مستوياتها أمام العملات الأخرى.
كل تلك المؤشرات الاقتصادية وليس فقط انخفاض العملة … تضعنا امام التساؤل، لماذا وصلت تركيا الى هذه الحالة؟ باختصار فقد تسبب نهج مسيرو الاقتصاد التركي استهداف تحقيق مستويات نمو اقتصادي مرتفعة في الدولة واعتباره يمثل أولوية رئيسية في سياسية الحكومة، دون الاخذ بأهمية المستهدفات الاقتصادية الأخرى والتي نالت درجة اقل على الرغم من أن احتياجات التنمية الاقتصادية لا يمكن الركون فيها الى النمو الاقتصادي وحده. نما الاقتصاد التركي بنسبة 1.7٪ في عام 2020م مما جعله مع الاقتصاد الصيني فقط من الاقتصادات الرئيسية بمجموعة العشرين التي سجلت نموًا وسط جائحة كورونا. الا انه ومنذ شهر سبتمبر الماضي تتسارع بعض النتائج السلبية المشار اليها في بداية هذا المقال والتي تأتي حتما نتيجة للسياسات الاقتصادية الحالية في تركيا على نحو لم تشمله سياسات بديلة لصانعي استراتيجية النمو الاقتصادي. بداية الشرارة لتلك المؤشرات السلبية كانت من ارتفاع معدلات التضخم، وذلك جراء تدخلات البنك المركزي التركي غير المحسوبة في استخدام ادوات السياسة النقدية التي أدت إلى إضعاف الليرة التركية أكثر من المتوقع، حيث يسعى البنك الى ان التدخل المشار اليه من شأنه أن يعزز الصادرات مع احتواء النمو في الواردات وكانت النتائج المخطط الحصول عليها هي في كون العجز في الميزان التجاري والحساب الجاري محدودًا.
وبعد أن اعتمد البنك المركزي خفض سعر الفائدة، أدى ذلك الى التوسع في الائتمان وبشكل متكرر إلى تزايد انخفاض قيمة الليرة في السنوات الأخيرة، حيث كان من المخطط ان يعمل التحفيز الائتماني على تعزيز النمو، وهو ما تم في الاجل القصير أما في الاجل المتوسط فقد أدي ذلك إلى توسيع عجز الحساب الجاري، واتساع عجز الحساب الجاري هو الذي أضعف الليرة بشكل كبير، وتشير البيانات الأولية المتاحة والتصريحات المتداولة حول الوضع الائتماني حاليا ان هناك توجه أيضا لتوسع ائتماني كبير آخر، وهو ما سيعمل على تخفيض أكبر في قيمة الليرة. ومن جهة أخرى لا يمكن عزل تأثير ونشاط السياسة الخارجية التركية عن حالة الوضع الائتماني والتصنيف الدولي لها، حيث ان تركيا حاليا قد دخلت في صراعات إقليمية وأصبحت علاقاتها مع أوربا في مستويات غير جيدة، وأدت السياسة الخارجية للحكومة والسياسات الاقتصادية غير التقليدية إلى تآكل ثقة المستثمرين، واتجاه الليرة المستمر الى مستويات ضعيفة، يتزامن ذلك مع الاحتياجات التمويلية لتركيا من مختلف المصادر وبمستويات كبيرة، وقطاعها الخاص مثقل بالديون وبالعملات الأجنبية، مما يزيد المخاطر على الاستقرار المالي.
وقد بين تقرير وحدة المناولة المعلوماتية في الايكونومست (EIU) ان لجنة السياسة النقدية (MPC) التابعة للبنك المركزي التركي (CBT) خفضت في أكتوبر الماضي سعر الفائدة الرئيسي بمقدار 200 نقطة أساس إلى 16٪ إضافة الى خفض بمقدار 100 نقطة أساس في سعر الفائدة في سبتمبر، وذلك وسط ارتفاع معدل التضخم في الاقتصاد، وهذه الخطوة كانت نتيجة لضغوط الرئيس أردوغان والذي يتبنى بشكل عام أسعار الفائدة المنخفضة، ويفضل سعر صرف تنافسي ويجادل بان ذلك يجلب زيادة في الاستثمار والتوظيف فيما يبرر ضعف الليرة التركية الى إنها مناورات تحاك بشأن سعر الصرف وأسعار الفائدة. الجدير بالذكر أن خطة أردوغان تنطوي على ان وصول سعر الفائدة إلى 24% أو 19%، معوق للإنتاج والاستثمار، ويدفع الأفراد والمؤسسات إلى أن يستثمروا أموالهم في البنوك للاستفادة من الفوائد على أموالهم بدلا من ضخها في الاقتصاد وتشغيلها في الشركات والمؤسسات. ويعتقد أردوغان أن هذا السلوك بلا شك يحول الاقتصاد الإنتاجي إلى اقتصاد ريعي في ظل رفع سعر الفائدة، وهذا يؤدي -حسب التبرير- إلى زيادة معدلات التضخم من جانب العرض وبالتالي يؤدي إلى رفع تكلفة الإنتاج، ولكن لم تأخذ خطة أردوغان أن ارتفاع معدلات التضخم قد تكون بأسباب أخرى من بينها خفض قيمة العملة، لذلك فان صناع السياسة الاقتصادية في تركيا أصبحوا في مهمة صعبة لمعالجة الوضع الاقتصادي الحالي بما يحقق مصالح المستثمرين والمدخرين والمستهلكين. أيضا هناك من يجادل الخطة من منظور السياسات النقدية والتي تتلخص في أنه إذا انخفضت قيمة العملة فان رفع سعر الفائدة سيؤدى الى امتصاص السيولة الزائدة في السوق وبالتالي السيطرة على معدلات التضخم.
وتعزيزا لهذا الدور فقد كانت تدخلات الرئيس أردوغان بأن أعفي ثلاثة أعضاء من لجنة السياسة النقدية بسبب معارضتهم لخفض سعر الفائدة في سبتمبر، وعليه قامت لجنة السياسة النقدية بتبرير خفض أسعار الفائدة الذي قدمته في الشهر السابق، على الرغم من تسارع تضخم أسعار المستهلك السنوي في سبتمبر إلى 19.6٪ أن الزيادة التي حدثت مؤخرا في معدل التضخم كانت مدفوعة بعوامل انتقالية مثل ارتفاع أسعار المواد الغذائية وتكلفة الواردات ومحدودية العرض وارتفاع التكاليف الإدارية وزيادة الطلب الناتج عن رفع قيود الاغلاق لجائحة كورونا. لذلك من المحتمل ان يخفض البنك المركزي سعر الفائدة مرة أخرى هذا العام بمقدار 100 نقطة أساس فقط في ديسمبر، بناء على مسيرة التضخم ومن المتوقع ان يكون هناك مزيد من التخفيض في عام 2022م. وتؤكد لجنة السياسة النقدية بأن التضخم مرتفع مؤقتًا مما يعني أن كبح الطلب من خلال أسعار فائدة أعلى لن يكون فعالًا. وأقرت اللجنة أن التضخم سوف يتسارع لفترة أطول مما كان متوقعا في السابق نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة وعدم توزان العرض والطلب لذلك قام البنك المركزي بتعديل تقديرات التضخم المتوقع ان يسجلها الاقتصاد التركي في نهاية هذا العام برفع تقديراته من 14.1٪ إلى 18.4٪ وترى اللجنة أن التحسن في الحساب الجاري سيستمر ويسهم في استقرار الأسعار، في إشارة محتملة إلى الاخذ بنظرية ان الليرة الضعيفة ستستقر بمجرد أن تساعد في تقليل عجز الحساب الجاري.
وتبين تحليلات الايكونومست ان التخفيض الأخير في أسعار الفائدة التي قام بها البنك المركزي التركي وأدت إلى توفير أموال بالأجل قصيرة بتكلفة تمويل منخفضة، قد ساهمت في نمو سريع للقروض ومع ذلك فمن المتوقع أن تتصرف البنوك الخاصة بحذر لاستمرار المخاوف بشأن جودة الائتمان والأرباح المتواضعة وانعدام الثقة في صنع السياسات. وتماشياً مع سياسات الحكومة المخفضة لسعر الفائدة، فقد أعلنت البنوك الحكومية الكبرى في أكتوبر الماضي عن تخفيض في أسعار الفائدة بنحو نقطتين مئويتين في معدلات القروض التجارية والرهن العقاري وبالتالي فان المتوقع نموًا حقيقيًا متواضعًا فقط في القوائم المالية للبنوك في الأشهر المقبلة، ومع توقع اتجاه البنوك الحكومية في توفير المزيد من القروض والمدعومة من الدولة، فان من الممكن أن يدعم ذلك النمو الاقتصادي مؤقتًا في تركيا، ومع استمرار ركون البنك المركزي الى أن العوامل المسببة للتضخم هي بسبب ارتفاع الأسعار العالمية فقط دون اتخاذ سياسات مالية ونقدية متشددة، فقد يرتفع التضخم بمعدلات أكثر ويظل مرتفعا لفترة أطول مما يتوقعه البنك وجاءت أُولى علامات ذلك عندما ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي المخصصة لقطاع الصناعة ومولدات الطاقة ومن المتوقع ان ينعكس أيضا على ارتفاع أسعار الكهرباء والعديد من البنود الخدمية الأخرى نتيجة لارتفاع تكاليف إنتاج وتسليم السلع والخدمات في مرحلة ما قبل المستهلك. ومن المتوقع أن يشهد شهر يناير ضغوطًا تضخمية جديدة حيث ينعكس المعدل المرتفع الحالي للتضخم في الزيادة في الأجور والرواتب وكذلك في الزيادة في بعض الضرائب غير المباشرة ورسوم الخدمات العامة.
ويشير تقرير التصنيفات الخاصة بدولة تركيا والذي أصدرته وكالة التصنيف الائتماني EIU لشهر أكتوبر ان مخاطر الدولة بالتصنيف B بسبب تأثير التوترات السياسية وزيادة السلطات المركزية للرئيس أردوغان وتدخلاته في سياسات البنك المركزي، وارتفاع التضخم إلى زيادة مستوى عدم اليقين بشأن اتجاه السياسة الاقتصادية، وتفضيل الحكومة نهج النمو الاقتصادي المدعوم بالائتمان، بدلاً من تنفيذ الإصلاحات الهيكلية وإعادة توجيه النمو إلى مسار مستدام والاختلالات الخارجية الكبيرة التي تجعل الاقتصاد التركي عرضة للتحولات في ثقة المستثمرين. وقد ظلت المخاطر السيادية في التصنيف B بسبب استفادة الاقتصاد التركي من الانتعاش العالمي في عام 2021م، ومع ذلك فقد خفّضت الوحدة تقييمها للمؤسسات النقدية في تركيا بسبب تعرضها لضغوط سياسية متزايدة للإبقاء على أسعار الفائدة منخفضة و لا يزال الاقتصاد عرضة لتدهور ظروف التمويل العالمية ومن المحتمل خفض التصنيف إلى CCC. أما مخاطر العملة فقد ظل التصنيف أيضا عند B حيث لا تزال الليرة التركية التي انخفضت قيمتها بشكل حاد خصوصا بعد خفض البنك المركزي التركي لسعر الفائدة في سبتمبر 2021م عرضة لمزيد من التدهور في ثقة السوق ويعد التضخم المرتفع وانخفاض تغطية الاحتياطي والمخاطر السياسية من أبرز المصادر الرئيسية لضعف الليرة. كذلك تم تصنيف مخاطر القطاع المصرفي عند Bبسبب التوسع الائتماني غير المحسوب في عام 2020م وما تسبب بزيادة المخاطر على الاستقرار المصرفي وأثقل الشركات التركية بالديون بالعملات الأجنبية، وسيؤثر على تقلب قيمة الليرة وعلى قدرة البنوك على ترحيل ديون كبيرة ومع ذلك فمن المتوقع أن يسهم تتمتع البنوك التركية برأس مال احتياطي كبير في تحمل جزء كبير من تأثيرات الزيادة في القروض المتعثرة. وفيما يخص المخاطر السياسية فإن تداعيات محاولة الانقلاب في عام 2016م والتضييق الحكومي على المعارضين السياسيين، والانتقال إلى نظام رئاسي صارم ومتشدد، سيعمل على إبقاء (عدم الاستقرار السياسي) مرتفعاً كما ان انخراط تركيا في العديد من النزاعات الإقليمية والعلاقات المتوترة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أسهمت في وضع تركيا بالتصنيف CCC. كما تم تصنيف مخاطر الهيكل الاقتصادي في BB وذلك ان الاقتصاد التركي يعتمد بشكل كبير على تدفقات رأس المال الأجنبي قصيرة الأجل المتقلبة لتحقيق النمو فان هذا يضع الهيكل الاقتصادي التركي عرضة للتغيرات في تصورات المستثمرين للمخاطر وظروف السيولة العالمية.
وفي جانب أخر، فان طبيعة الاقتصاد التركي تعتمد على قطاعين أساسيين هما قطاع الخدمات (ويشمل قطاع السياحة) الذي يمثل 62% من اجمالي الناتج المحلي وقطاع الصناعة الذي يمثل 24% وبالتالي فان اهم العوامل التي ستسهم في الحفاظ على النمو الاقتصادي، هي في تقليص العجز في تجارة البضائع المصنعة والذي يعتمد جزئيًا على حجم الطلب الخارجي على الصادرات التركية، وصافي الدخل من الخدمات في أرباح السفر والسياحة بعد الركود الناجم عن فيروس كورونا في عام 2020م، وسوف تتضح نتيجة الصراع بين تأثيرات السياسات الاقتصادية المتبعة والممكنات القطاعية التي يتميز بها الاقتصادي التركي مسرحا للمراقبة والترقب في بداية العام القادم.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال