الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
بينما مازالت الدول تتعافى من الآثار السلبية الناتجة عن جائحة كورونا التي أوجعت العالم ، نسلط الضوء في هذا المقال على الاثار الإيجابية التي خلّفتها الجائحة والتي بسببها جعلت العالم أجمع يتخذ توجهاً مغايراً عما كان عليه قبلها، فبعد مرور سنتين من الصراع مع الجائحة والتي طال أثرها مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والصحية، ثبتت ضرورة دعم وترسيخ سياسات النمو المستدام كأحد متطلبات خلق اقتصاد قوي وشامل، ووضعها على رأس الأهداف العالمية التي يجب على الدول في جميع انحاء المعمورة أن تتكاتف للعمل عليها لتتمكن من التصدي لمواجهة الجوائح و الأزمات التي قد تعج بالعالم.
خلال السنوات القليلة الماضية ظهر ما يسمى بمعيار (ESG)، وهو اختصار لــ (Environmental, social, governance) وهي المعايير الرئيسية الثلاث لقياس الاستدامة والتأثير للاستثمار في الشركات وتعني أولاً الحوكمة البيئية التي تهتم بالتغير المناخي والبصمة الكربونية والتلوث البيئي وإعادة استخدام المواد وتدويرها نظراً لما تعاني منه البيئة من مشاكل وأبرزها الاحتباس الحراري وانبعاثات الكربون التي كانت السبب الرئيس لتغير المناخ في الغلاف الجوي، ولما خلقته هذه المشاكل البيئية من آثار تهدد مستقبلنا وتمتد لتطال مستقبل الأجيال القادمة، وثانياً الحوكمة الاجتماعية التي ينبثق منها المساواة بين الجنسين والمساهمة الاجتماعية ومعايير العمل والصحة والسلامة، وبناءً على هذه المعايير الاجتماعية تقوم الشركات في وضعها في الهيكلية والتنظيم الخاص بها لخلق بيئة عمل أكثر استدامة، وثالثاً حوكمة الشركات بما فيها من حقوق المساهمين والشفافية الضريبية وإدارة المخاطر ومكافحة الفساد وهي من أهم الركائز في المؤشر إذ تُعنى حوكمة الشركات في الحد من استخدام السلطة الإدارية في غير مصالح المساهمين وتقوية آداء مجالس الإدارات والتشديد على الإفصاح فلابد أن تكون لدى كل شركة هيكلية وخطة استراتيجية واضحة لتسيير أعمالها لتحول دون تضليل المساهمين وذوي المصالح في الشركة.
حيث تتشكل أهمية معيار الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات بشكل اساسي في تعزيز استدامة الأعمال في الشركات والمنشآت التجارية خاصةً في أوقات الأزمات، وهو ما يطلق عليه مصطلح (الاستثمار المستدام)
(Sustainable Investment).
يعتبر ظهور معايير الاستثمار المستدام على هيئة مؤشرات كمؤشر (S&P) و (MSCI) (وهي مؤشرات لوكالات التصنيف الائتمانية الكبرى)، لقياس ومقارنة آداء الشركات في مساهمتها فيه يرجع إلى اهتمام الحكومات بتعزيز ودعم التوجه للاستثمار في هذه المعايير، وأبرزها أهداف التنمية المستدامة أو ما تسمى بأجندة الأمم المتحدة 2030 التي اعتمدتها جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في عام 2015 للعمل على تحقيقها بحلول عام 2030 والمتضمنة 17 هدفاً التي بمجملها تقوم بالموازنة بين الاستدامة البيئية والاجتماعية والاقتصادية.
وتهدف معايير الاستثمار المستدام لجعل الشركات لا تتقصى الربح فحسب بل كذلك في خلق فرص لها للمساهمة في حل العديد من المشكلات التي يواجهها العالم، كون تلك الشركات هي عناصر فاعلة جنباً إلى جنب مع الحكومات في المجتمع الدولي.
قد يرى بعض الخبراء ومن بينهم أستاذ المالية (داموداران) في جامعة نيويورك بأنه هناك مبالغة في الفائدة المرجوة من الاستثمار في معايير الاستثمار المستدام، وفي اعتقاده بأن ما يحدث هو موجة مشابهة لموجة حوكمة الشركات التي حصلت قبل عقدين إثر قضية (إنرون) والتي لم تؤدِّ إلا لإثراء الاستشاريين والمصرفيين وتركت المساهمين عاجزين أكثر مما كانوا عليه قبل بدء الحركة، أحد الحجج التي بنى عليها نظريته هي بأنه يصعب قياس هذه المعايير كونها غير ملموسة مقارنةً بالأرباح التي يسهل قياسها وحسابها في الشركات، وكذلك استدل بالإحصائيات التي تقول أن هناك عدد قليل من الشركات التي سجلت نمواً مقارنةً بمجموع الشركات التي استوفت معايير الاستثمار المستدام.
ولكن في الواقع تبنّي الشركات لهذه المعايير ووضعها في خططها الاستراتيجية هو زيادة في قيمتها السوقية غير الملموسة، ويعتبر كأدوات جذب للمستثمرين وصناديق الاستثمار والتحوط للاستثمار في هذا النوع من الشركات، وكذلك ما ذكرته بي دبليو سي (PwC) في تقرير نشرته هذا العام بأنه من المرجح أن يستمر الزخم الذي تدفعه هذه الأعمال للتصدي للمشاكل والقضايا البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، وذلك بدعم من المستثمرين والمساهمين والحكومات وصناع السياسات والقرارات، وبأنه أصبح هناك وعي متزايد بالمخاطر التي يواجهها العالم والتي يجب تحديدها وإدارتها، ومن جانب آخر هناك وعي متزايد بالفرص الهائلة التي يتيحها حجم التحول الذي يواجه العالم الآن ومن المؤكد أن هذا التحول سيؤدي إلى إعادة تقييم شاملة لجميع أنواع وقطاعات الأعمال، كما انها ستخلق فرص ومصادر جديدة مهمة لخلق القيمة السوقية.
ونشرت (London Business School) محاضرة تحدث فيها البروفيسور في حوكمة الشركات والمالية
(ريتشارد بريلي) عن الاستثمار في معايير الاستثمار المستدام من منظور أكاديمي، وذكر بأنه خلال الأزمات يفقد المستثمرون الثقة في الشركات والأسواق والمؤسسات، وعندما تكون الثقة بشكل عام منخفضة فمن أحد الطرق التي يمكننا من خلالها بناء هذه الثقة هي استثمار ما نسميه )رأس المال الاجتماعي( والذي يعد بمثابة الغراء الذي يحافظ على تماسك الشركة، فالحجة هنا مبنية على كون العمل على رأس المال الاجتماعي في وقت يفقد فيه المستثمرين ثقتهم هو الوقت الذي تؤتي فيه المسؤولية الاجتماعية ثمارها. فالمسؤولية الاجتماعية كأحد معايير الاستثمار المستدام الثلاثة الغرض منها هو شراء الحماية للشركة ضد الأحداث السلبية.
من الأمثلة الناجحة حسب تقرير نشرته منصة (ألفا سينس) والتي استندت فيه لإفصاحات صندوق الاستثمار في الولايات المتحدة (US SIF) حول أعلى 15 شركة تقييماً في الولايات المتحدة طبقاً لمعايير الاستثمار المستدام، والذي تلقت فيه شركة نكست إيرا إنيرجي (NEE) التي تعد أكبر شركة قابضة للمرافق الكهربائية من حيث القيمة السوقية الأعلى تقييماً في قطاعها حسب تصنيف (S&P)، فخلال العقود الماضية أثبتت فيها الشركة باستمرار قدرتها في تقليل انبعاثاتها من خلال زيادة استخدام الطاقة المتجددة، وكذلك سجلت انبعاثات كربون اقل بنسبة 55% من متوسط النسبة في المرافق الأخرى في الولايات المتحدة، وقد حددت الشركة هدفاً لتقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بحلول عام 2025 بنسبة 67% عن مستوياتها الأساسية لعام 2005 والذي تم اعتباره هدفاً طموحاً بالنسبة لشركة في قطاع الطاقة.
وفيما يتعلق بالبيئة التشريعية في المملكة العربية السعودية ودورها ضمن التوجه العالمي نحو معايير الاستثمار المستدام، فقد قامت المملكة بجهود منقطعة النظير حيث أطلقت خلال رئاستها لقمة العشرين عام 2020 مفهوم الاقتصاد الدائري للكربون كإطار لمعالجة كافة التحديات التي تنتج عن انبعاثات الغازات الدفيئة وإدارتها بالإمكانيات المتاحة وذلك من خلال التخفيض وإعادة الاستخدام والتدوير والإزالة، والذي وافقت عليه كافة الدول الأعضاء في مجموعة العشرين، وكان ذلك مقدمةً لإطلاقها للبرنامج الوطني للاقتصاد الدائري للكربون والذي يهدف لتحقيق سياسيات مستديمة للنمو الاجتماعي والاقتصادي ويضمن أن تكون المملكة العربية السعودية في طليعة الدول الرائدة في مجال الاقتصاد الدائري للكربون.
كما صادقت المملكة على اتفاقية باريس للمناخ لمواجهة مشاكل المناخ، وكخطوة مهمة تم إطلاق مبادرة السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر هذا العام والتي تهدف بشكل رئيسي إلى تقليل الانبعاثات الكربونية ومعالجة أزمة المناخ، وكذلك استهدفت الوصول إلى الحياد الكربوني بحلول عام 2060، وهي بذلك تعدّ أحد الركائز الأساسية للحوكمة البيئية؛ مما يعزز دور المملكة وتطلعها لمشاركة العالم في جهوده نحو ترسيخ سياسات النمو المستدام.
وقد تفوقت عدة شركات سعودية في مؤشر معايير الاستثمار المستدام منها شركة البحر الأحمر للتطوير المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة بحصولها على معدل 84 من أًصل 100 هذا العام حسب مؤشر الاستدامة العقارية العالمي (GRESB) لجهودها من أجل ضمان حماية البيئة وتعزيزها، وكذلك شركة المراعي التي تصدرت تصنيف الشركات السعودية على مؤشر تداول في عام 2019.
إن ما تقوم به هيئة السوق المالية من دور نحو ترسيخ معايير الاستثمار المستدام في السوق السعودي من خلال إعلانها لإطلاق مؤشر تصنيف مرتبط بالحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG) Index والمعتمِد على معايير مؤشر (MSCI)بحلول الربع الرابع من هذا العام أو في الربع الأول من عام 2022، يعد خطوة جريئة وتعبير طموح عن توجه المملكة في تبنّي معايير الحوكمة المتوافق مع التوجه العالمي، ولذلك اقترح على الشركات في المملكة بأن تولي اهتماماً أكثر وأن تقوم بدور فعّال فيما يتعلق بمعايير الاستثمار المستدام عن طريق تضمين هذه المعايير في تنظيم نشاطاتها وخططها الاستراتيجية ودخولها بالتصنيفات العالمية للمساهمة في خلق نموٍ مستدامٍ للاقتصاد والبيئة والمجتمع.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال