الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
عرضنا في الجزء الأوَّل من هذه المشاركة تحليل النظريَّة الاقتصاديَّة لدافع الأفراد لارتكاب جرائم السـرقات المبني على فرضيَّة عقلانيَّة “المجرم المرشَّح، وتوظيفه معياري المنفعة والكلفة الحدِّيَّتين. وفقًا للنظريَّة، يتَّخذ الفرد قرار ارتكاب السـرقة بعد مقايسة المنافع المترتِّبة عنها بكلف ارتكابها. كما بينَّا، أثر رفع الكلفة الحديَّة بزيادة أمد المسجونيَّة في تراجع عدد جرائم السـرقات. فرفع كلف ارتكاب الجريمة، يمثِّل عامل ردع مؤثِّر في قرار “المجرم المرشَّح:، وآليَّة فعَّالة لمكافحة الجريمة.
في السياق ذاته، الردع القانوني ليس الخيار الوحيد المتاح للسيطرة على الجرائم والحدِّ منها، فثمَّة سياسات بديلة قد تفرز حلولًا أعلى كفاءة، أبرزها:
أوَّلًا، تعزيز المنظومة التعليميَّة وزيادة عدد المدارس والمعاهد. التعليم يمنح الأفراد فرص الحصول على عمل قانوني بأجر يتناسب ومستوى تحصيل الدراسة. ارتفاع فرص العمل، يرفع كلفة الفرصة البديلة (للمجرم المرشَّح)، ويخفض عدد الجرائم. ثمَّة فيض من دراسات برهنت على جدوى الاستثمار في التعليم، وأثرالتوسع في إنشاء المؤسَّسات التعليميَّة في تقليص عدد الجرائم. العلاقة بين المتغيِّرين واضحة؛ كلَّما ارتفع عدد الطلبة المواظبين على الدراسة، تراجعت معدَّلات الجريمة.
ثانيًا، التوسُّع في برامج الاستخدام، وتقليص معدَّل البطالة، يرفع كلفة الفرصة البديلة للجريمة، ويقلِّل منفعتها الحديَّة المتوقَّعة، ويخفض عدد الجرائم. العلاقة بين معدَّل الجريمة والانتعاش الاقتصادي مباشرة وواضحة. فالانتعاش الاقتصادي يفضـي إلى تراجع معدَّل البطالة، وارتفاع الدخل الفردي، وزيادة كلفة الفرصة البديلة للجريمة، وعزوف (المجرم المرشَّح) عن ارتكاب الجرائم.
ثالثًا، التوسُّع في نشـر القيم الدينيَّة والأخلاقيَّة وترسيخها في المجتمع، وتقوية الروابط الأسريَّة، عوامل مؤثِّرة تسهم في الحدِّ من جرائم السـرقة. دور المنظمَّات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة والجمعيَّات الخيريَّة في تقوية شبكة الأمان الاجتماعي، وتجفيف منابع الفقر ضروري وحيوي . من تجارب الاقتصاد الاجتماعي المبتكرة والجديرة بالإشادة، تجربة بنك “بال فيكاس خزانة “, أو بنك “تطوير الأطفال” (Bal Vikas Khazana )الذي تأسَّس في مدينة دلهي قبل عقدين من الزمن. يقدِّم هذا البنك قروضًا لأعضائه الذين لا تقلُّ أعمارهم عن خمسة عشـر عامًا، لغرض تمويل مشاريع اقتصاديَّة صغيرة، ويدار من أعضاء شباب، يتمُّ تدريبهم على أداء مهام إدارة الادِّخار والإقراض. ساهم البنك خلال العقدين المنصرمين في تحسين معيشة آلاف من الأطفال الفقراء، وتحصينهم من الانزلاق إلى عالم الجريمة.
علاوة على دور النظريَّة الاقتصاديَّة في تفسير دوافع الأفراد لارتكاب جرائم السـرقة، فإنَّها تقدِّم تفسيرًا لتباين معدَّلات الجريمة في المدن الكبيرة عن معدَّلاتها في المدن صغيرة أيضًا. في دراستهم القيمة للجرائم في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة المعروفة بارتفاع معدَّل الجريمة في مدنها، المنشورة سنة 1996، بين (Glaeser and Sacerdote) تفوق عدد الجرائم في المدن الكبيرة عن عددها في المدن صغيرة الحجم بنسبة الثلاثين من المئة. كما قدَّرا نسبة مرونة ارتكاب الجريمة بـ 0.15% . فزيادة حجم السكَّان بنسبة عشـرة من المئة تؤدِّي إلى ارتفاع الجريمة بنسبة 1.5%. تباين عدد الجرائم بين المدن الكبيرة والصغيرة وفقًا لما توصَّلت إليه دراسات عديدة أُخرى، يُعزى إلى مجموعة عوامل، لعلَّ من أبرزها:
1- ارتفاع شريحة العاطلين عن العمل في المدن الكبيرة مماثلة بعددهم في المدن الصغيرة.
2- توفُّر فرص السـرقة المغرية في المدن الكبيرة. عدد الأهداف ذات القيمة باهظة الثمن مرتفع في المدن الكبيرة مقايسة بالمدن قليلة السكَان. ما يؤكِّد ذلك، أنَّ بيانات جرائم السـرقة الرسميَّة تشير إلى ارتفاع قيمة المواد المسـروقة في المدن الكبيرة قياسًا بالمدن صغيرة الحجم.
3- انخفاض احتمال إلقاء القبض على السارق في المدن الكبيرة بسبب ارتفاع عدد المشبوهين، وتقاعس السكَّان عن إسناد جيرانهم، ودعم جهود أجهزة الشـرطة، وسهولة التواري بين افراد المجتمع.
أحد أهمِّ مساهمات النظريَّة الاقتصاديَّة في تحليل جرائم الـسرقة، تلك المتعلَّقة بتحديد حجم الجريمة الأمثل. المجتمعات -كما هو معروف – تواجه مشكلة محدوديَّة الموارد الاقتصاديَّة والبشـريَّة المتاحة. ارتفاع معدَّل الجريمة، يدفع المجتمع إلى مواجهة حالة المفاضلة بين توجيه الموارد المحدودة إلى تنمية الاقتصاد ، أو تخصيص جزء منها لمحاربة الجريمة. هذه المعضلة تقتضـي تحديد الحجم الأمثل لجرائم السـرقة، أو عدد الجرائم المقبول اجتماعيًّا، ويمكن تحديده باستخدام أدوات التحليل الاقتصادي، ومفهوم الكلفة الحدِّية تحديدًا.
تتحمَّل المؤسَّسات الحكوميَّة نفقات عالية للحدِّ من عدد الجرائم، لغرض رفع كلف الجريمة وردع (المجرم المرشَّح) عن ارتكابها. من جانبهم، يتحمَّل أفراد المجتمع كذلك نفقات مترتِّبة عن إسهامهم في تقليل معدَّل الجريمة، باستثمارهم في مستلزمات الحماية؛ نصب كاميرات المراقبة وأجهزة الإنذار، وتحصين المساكن ضد السـرقة… الح.
حاصل مجموع نفقات الطرفين، يقدِّم “الكلفة الحدِّية للوقاية من الجريمة” التي تتناسب قيمتها عكسيًّا وعدد الجرائم. فكلَّما انخفض عدد الجرائم، ارتفعت الكلفة الحدِّية للوقاية التي قد تصل الى مستويات مرتفعة جدًّا في حالة شبه انعدام الجرائم.
يمكن الوصول إلى الحجم الأمثل للجريمة من خلال مقايسة الكلفة الحدِّية لضحايا الجرائم، والكلفة الحدِّية للوقاية من الجريمة. الحجم الأمثل، يتحدَّد عند تساوي الكلفة الحدِّية للوقاية والكلفة الحدِّية لضحايا الجرائم .. نقطة التوازن “أ” في الرسم البياني- نقطة تقاطع المنحنين- التي تحدِّد العدد الأمثل للجرائم “ج”. انخفاض عدد الجرائم إلى مستوى أقلَّ من الحدِّ الأمثل.. إلى اليسار من “ج”، يرفع التكلفة الحدِّية للوقاية إلى مستوى يفوق الكلفة الحدِّية لضحايا الجريمة، وينتج هدرًا في الموارد الماليَّة المخصَّصة لمكافحة الجريمة. بالمقابل، السماح لمعدَّل جريمة أعلى من الحدِّ الأمثل… إلى اليمين من “ج” ، يجعل الكلفة الحدِّية للضحايا أعلى من الكلفة الحدِّية للوقاية، ممَّا يستوجب زيادة الإنفاقين العام والخاص على مكافحة الجريمة.
المساهمة المهمة الأُخرى للتفسير الاقتصادي لدوافع الجريمة، تكمن في تحليل الخيارات المتاحة لـ (المجرم المرشَّح). خيارات نشاط الجريمة، أو “سوق الجريمة” -إن صحَّ التعبير- لا تنحصـر في مؤسَّسات المجتمع وأفراده بل للمجرمين المرشَّحين قراراتهم، ومفاضلتهم لاختيارالجريمة الأكثر منفعة والأقلَّ مجازفة. المؤسَّسات القضائيَّة تشـرِّع لائحة قانونيَّة تحدَّد فيها العقوبة الجزائيَّة لكلِّ جريمة، وفقًا لطبيعتها ومخاطرها. هذه اللائحة تقدِّم لِـ (المجرم المرشَّح) قائمة “Menu ” للجرائم وعقوبتها، و تتيح له اختيار الجريمة الأكثر نفعًا والأقلَّ عقوبة!
بإمكان الهيئات القانونيَّة مصادرة هذا الخيار بتصعيد عقوبة جرائم السـرقة البسيطة إلى عقوبة الجرائم الأكثر خطورة، كالسطوالمسلح مثلًا. مقدار التصعيد يجب أن يرتبط بالكلفة الحدِّية للضحايا. الجدير بالملاحظة أن أحد سلبيَّات هذه السياسة، تحفيزها المجرمين على اختيار ارتكاب الجرائم الأكثر نفعًا باستخدام السلاح والعنف، مَّما يرفع مخاطر المجتمع. التحدِّي الذي تواجهه مؤسَّسات مكافحة الـسرقة، يكمن في تطوير قائمة عقوبات تقلِّل الكلف الاجتماعيَّة للجريمة.
لقد شكَّلت الجريمة وما تزال خطرًا يهدِّد أمن أفراد المجتمع وسعادتهم واستقرارهم، وتعدُ أحد أصعب تحدِّيات الحياة في المراكز الحضـريَّة لما تسبِّبه من كلف مرتفعة للضحايا والمجتمع. لذا، تقتضـي الضـرورة تطوير أدوات مواجهتها بما في ذلك تطوير أدوات التحليل الاقتصادي للحدِّ من معدَّلات الجريمة وتحسين جودة الحياة .
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال