الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لطالما سعت الأسواق بمختلف مجالاتها الى خلق الثروة، وتلبية رغبات المستهلكين، كما انها هوية للمنافسين ممن يجد ذاته ونشاطاته فيها وبالرغم من كونها تحمل بعداً اقتصادياً الى انها أيضا تؤشر الى تعزيز القيمة الأخلاقية والثقافية والانسانية والاجتماعية والسياسية، لذلك نجد ان الأسواق في عمقها الفكري تكشف أيضا عن فلسفة الفرص المتاحة وكيفية توظيفها بشكل ديناميكي واسهاباتها التي توصلنا الى الابداع والابتكار وإتاحة المجال امام الغالبية لتحقيق هدف رئيس وهو الرفاهية الاقتصادية.
مجددا دعت بعض النظريات الى أهمية فلسفة الربط بين علم الاقتصاد في مكون الأسواق وتخصصات الأنثروبولوجيا Anthropology أي تفسير المعايير الأخلاقية والسلوكية الإنسانية من خلال علم الأنثروبولوجيا الجديد وصولا الى تفسيرات السلوك الاقتصادي للمستهلك والمُنتج وتحركات الأسعار وانعكاسات مفاهيم الأسواق على حياة الناس وثقافاتهم لذلك نجد ان مربع السوق مكون من (البائع او المنتج )،( المستهلك او المشتري ) و( السلعة او الخدمة ) و( اسعارها ) فبدون أي من هذه الزوايا الأربعة ينتفي أصلا وجود السوق.
وداخل هذه الزوايا تكمن فلسفة السوق من مختلف الاتجاهات ، لذلك يعرف السوق بأنه عبارة عن المكان الذي تلتقي فيه قرارات البائعين والمشترين بشأن تبادل السلع والخدمات وبالتالي فهو العملية التي يتم من خلالها تحديد الأسعار والكميات المتبادلة من السلع والخدمات المختلفة علما ان السوق تجاوز اليوم حدود المكان الجغرافي الى الأسواق القائمة على التطبيقات الذكية والمواقع المختلفة على شبكة الانترنت.
إن مفهوم (التبادل) هو جوهر هوية الأسواق فمع التطور الذي انتقلت معه العلوم الحديثة في الاقتصاد المؤسسي الجديد عُرّف السوق برؤية جديدة على أنه : آلية عمل ما أي احد انواع العمل المؤسسي الذي يهدف الى تسهيل التبادل، والتنسيق، وتخصيص الموارد، والسلع والخدمات بين المشترين والبائعين، وبين المنتجين والوسطاء والمستهلكين، و ذات طبيعة تنافسيّة بكفاءة عالية، وتُشجّع تطوير الأعمال، وتسعى لتحقيق أهداف اقتصاديّة شمولية بأقل تكلفة ومخاطر منخفضة .
تصنف الأسواق الى عدة تصنيفات وذلك حسب نوعية السلع والخدمات مثل الأسواق المالية وأسواق العقار وأسواق العمل وأسواق النفط وأسواق المعادن أو حسب مكانها الجغرافي (مثل الأسواق المحلية والإقليمية والدولية)، أو وفقًا لهيكلها مثل الأسواق التنافسية وأسواق احتكار القلة والأسواق الاحتكاري. يشير روبرت ميرفي Robert P. Murphy وهو عالم اقتصاد، ومؤرخ، أمريكي إلى ان السوق : شبكة عمليات التبادل التي يمارسها الأفراد مستخدمين أملاكهم الخاصة. حيث يؤكد النظام الرأسمالي — المعروف أيضًا باقتصاد السوق — على الملكية الخاصة للموارد، فالأفراد يتمتعون بحرية اختيار وظائفهم وبدء أي نشاط تجاري يريدون، لكن لا بد من شراء أو استئجار أي مورد يستخدمه النشاط التجاري ويقزل بأن السوق ليس شخصًا أو حتى مكانًا وإنما مصطلح يشير إلى التعاملات التي تتم بين أصحاب الممتلكات الخاصة.
هذا التفسير لروبرت ميرفي ( في اعتقادي ) موجه الى تفسير فلسفة السوق القائمة على الحرية الاقتصادية والتجارية في جميع مكونات السوق وإدارة أساليب التعامل وتحركاتها فيما بينها متجاوزا بطرحه مفهوم المكان الى ابعد من ذلك .
ترتكز الأسواق في هويتها على المؤسسات والحياة الاجتماعية وثقافة الافراد وسلوكيات الأداء مما يجعل من آليات عملها ذات ثقافة اقتصادية قوامها القيّم مثل : عدالة المنافسة والتكامل الاقتصادي ولذلك نجد عبر تاريخ الفكر الاقتصادي الكثير من الأسواق التي استندت على فلسفة وثقافة المجتمعات وكانت تؤسس الى ازدهار العلوم الأخرى مثل التاريخ والشعر والادب وعلم الاجتماع غيرها من العلوم. كما كان للعرب خارطة أسواق تاريخية معروفة مثل عكاظ مما كان لها الأثر الكبير في سمات تلك المجتمعات في اطارها الثقافي والمعرفي ناهيك عن دورها الرئيس وهو الاقتصاد.
لقد قام “ابن خلدون” أيضاً بتناول قوى السوق كقوى إنتاجية وقال : تتأثر الأسواق بالعمران واتساعه كثرةً وقلةً، نشاطًا وكسادًا لأنه مع اتساع العمران تتسع الحاجات إضافة الى دورها في اكتساب مجالات المعرفة الإنسانية والتنوع الذي يأتي من خلال المجالات الحرفية والصناعية وغيرها.
لقد وجدت الأسواق في العصور القديمة فقد كانت هناك المدن والتنقلات والتخصص الحرفي في انتاج السلع مقابل حاجات ورغبات متنوعة لكافة شرائح تلك المجتمعات التي يتم اشباعها بالشراء مما أدى الى نشوء الأسواق وان كانت صغيرة وسابقة لعلم الاقتصاد وليست بذات النمط اليومي ولا تجذب آنذاك الاهتمام او الفكر الرئيسي لعلم الاقتصاد وهذا يتضح من خلال الاطار الفلسفي الذي تطرقت له منهجيات الحياة العامة في العصور القديمة، تمركز الأسواق في وسط المدينة ففي اليونان القديمة كان يطلق على الاسواق أغوراي وكانت تلك الأسواق غالبا في أماكن مفتوحة. ومن هنا نجد مصطلح السوق Market يعود أصلها إلى الجذر اللاتيني Merx ويقصد به السلع أو البضائع عطفا على دور المنافسة كسمة من سمات الأسواق، فالمنافسة من خلال المنظمات تسعى للحصول على أفضل صفقات ممكنة ينتج عنها بيئة تنافسية فيما بينها إضافة الى اتجاهات العرض والطلب وبناء عليه تكون الأسواق تنافسية حالما يتوفر بها المشترين والبائعين بعدد كبير وسلع متماثلة ومتنوعة إضافة الى الأسعار والمعلومات التي تكون متاحة وفي متناول الجميع .
يعتبر التوازن في الأسواق احد اهم عوامل الاستقرار في الأداء ويقصد بالتوازن الوضع الذي تم التوصل إليه فلا يوجد ما يدعو إلى تغييره ما لم تحدث تغيرات خارجية تؤدي إلى ذلك ، فسعر التوازن هو السعر المُتحقق فعلاً في السـوق ، بتسـاوي الكمية التي يكون المستهلكون مستعدين لشرائها من السلعة أو الخدمة ، مع الكميـة التي يكون المنتجون مستعدين لعرضها او بيعها منها.
مجمل القول : بالرغم من كون الأسواق احد اهم مكونات علم الاقتصاد لارتباطها الوثيق بأداتي العرض والطلب الا انها تحمل ابعاداً فكرية في جانبها الثقافي والاجتماعي والسياسي إذ انها تشكل عمقاً فلسفياً في هويتها وانسجامها مع الثقافات المجتمعية وتعمل بالتالي على تشكيل تلك الثقافات وتنصهر في الكثير من القضايا نحو المعرفة والتنافسية عبر تاريخ الفكر الاقتصادي وحتى يومنا الحاضر.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال