الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في السنوات القليلة الماضية تغيرت العديد من الأمور فيما يتعلق بالثقافة المحلية السعودية خصوصاً في المدن الكبيرة فبدأنا نشاهد مثلاً شبه عزوف من الناس عن الزيارات المنزلية للأصدقاء والأقارب واكتفائهم بالجلوس معهم في المطاعم والمقاهي ونحو ذلك. شخصيا، لا أؤيد هذا الاتجاه ربما بسبب نوستالجيا مجلس والدي رحمه الله الذي كان عامراً بالضيوف من الشباب والرجال وكبار السن وكنت أراه أشبه ما يكون بالخيمة الشعبية التي تقدم الراوي والشاعر والخطيب في حين، وفي حينٍ آخر يميل ذلك المجلس لأن يكون منتدىً سياسياً لمناقشة مستجدات الشرق الأوسط وفي أحايينٍ أقل يكون سوقاً لعقد الصفقات التجارية في قطاعات السيارات والمواشي وغيرها. المهم أن ضيوف والدي رحمه الله كانوا يضفون روحاً لمنزلنا المتواضع وكان الفنجال الذي يعاد تعبئته عشرات المرات ليس “مجانياً” في الواقع بل تتم مقايضته دون إدراك بـ “علوم الرجال”.
اليوم، أعتقد أن متغيرات العصر تتطلب منا إعادة النظر في مفهوم الكرم في عالم بدأت تطغى عليه الماديات وبدأ الجميع يتحدثون عن المشاريع والاستثمارات ودراسات الجدوى وكل ما يتمحور حول الريال. في الحقيقة، أرى أن هذا التوجه يعتبر جيداً نوعاً ما فيما يتعلق ببحث تحسين الوضع المعيشي للأفراد أو حتى مجرد إعمال العقل بعمليات العصف الذهني على فرضية أن الكثيرين يفعّلون نظام الفرامل قبل أولى خطوات التنفيذ. على أي حال، هذا التوجه المادي أو الرأسمالي أو أياً يكن مسماه يستدعي تغيير سلوك من لا ينتهجونه من الناس مع منتهجيه. فمثلاً عندما تكون العلاقة الاجتماعية مبنية على أساس الريال فيتوجب التوقف تماماً عن تقديم العروض المجانية في كرمنا العربي من ذبيحة زهاء الألف وقهوة عربية ببنها وهيلها وزعفرانها وعود كمبودي باهظ الثمن إلا إذا كانت الفائدة المرجوة من هذا الضيف (المادي) تغطي مجمل التكاليف وتحقق أرباحاً للمضيف فعلى سبيل المثال لا الحصر عندما يكون الضيف يتمتع بروح الدعابة ويتسبب بإضحاك المضيف فهو يقدم عرضاً كوميدياً مباشراً يستحق قيمةً ماديةً معينة توازي قيمة تذكرة حضور مسرحية كوميدية مثلاً في اقتصاديات العالم المادي. أما إن كان الضيف فوق ماديته ثقيل الظل والنفس فهو خسارة مؤكدة ويتوجب على المضيف تعويضها مثلاً بطرد ذلك الضيف من المجلس والتسبب عليه بضرر نفسي محدود يمكن تقديره مادياً بحسب مكانة الشخص ومدى شعوره بالإهانة فيما يعادل تفريباً تكلفة الجلسات العلاجية المفترضة مع المعالج النفسي لتجاوز الضرر حتى وإن لم يتوجه المتضرر للمعالج ولم يتم أصلاً إثبات ذلك الضرر قضائياً.
ختاماً، الكرم من أسمى مكارم الأخلاق فهو عطاء لا يرجى جزاؤه وقد يكون كل ما قيل أعلاه من باب السخرية لكنه يعطي تصوراً لشكل محيطك الاجتماعي عندما يكون مادياً بحتاً يقدّم علوم الريال على علوم الرجال وإن ظننت بتفاهة ما ذكرت فعليك بالقراءة عن (الاقتصاد السلوكي) وفلسفته في مدى تاثير التغيرات الاجتماعية في الاقتصاد وتسعير المنافع والممارسات اليومية الطبيعية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال