الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تناولنا في الجزء الاول من المقال، ما شهده المرفق العدلي في المملكة من التطويرات الجوهرية التي كان لها اثر في تطوير إجراءات التقاضي ورفع كفاءة عمل الجهاز القضائي والمؤسسة القضائية بشكل عام. واليوم نستكمل في الجزء الثاني ما شهده هذا المرفق الهام، ومن ذلك التطورات المتعلقة بأعمال أعوان القضاة، ويقصد بأعوان القضاء الموظفون والفنيون الذي يعاونون القضاة في القيام بمهامهم.
وقد نصت المادة (81) من نظام القضاء على أن (يعد من أعوان القضاء كتاب الضبط، وكتاب السجل والباحثون، والمحضرون، والمترجمون، والخبراء، وأمناء السر، ونحوهم)، والحديث هنا هو عن أحد أهم أعوان القضاء وهم الباحثون القضائيون؛ فالحاجة للباحثين القضائيين المتخصصين في الأنظمة والعلوم القضائية حاجة ماسة خاصة مع كثرة الدعاوى القضائية والجلسات الكثيرة التي ترهق كاهل القضاة وتعدد المهام التي يمارسها القاضي، وهذا يؤثر على القضاة بلا شك ويبطئ من عملية التقاضي وكفاءة العمل مع حرصهم واجتهادهم وفقهم الله.
وقد وجدت أهمية عمل الباحث القضائي عملياً في القضاء الفدرالي الأمريكي، فالباحث القضائي يقوم تقريباً بعمل المساعد للقاضي في أغلب الأعمال المتعلقة بالدعاوى القضائية من الناحية العلمية والقانونية، فرأيت أن أكتب مقالاً أسلط الضوء فيها على أهمية الباحث القضائي ودوره في الجهاز القضائي مقترحاً تفعيل أو تطوير هذه الوظيفة الجوهرية في محاكم المملكة واستقطاب وتدريب الكفاءات المتخصصة في القضاء والأنظمة لما لها من أثر لمسته في مساعدة القاضي على التفرغ لعمله الأساسي وهو الفصل في المنازعات وإصدار الأحكام، وقد جاء صدور نظام المحاكم التجارية في ١٥/٨/١٤٤١هـ والذي اشتمل على أحكام ومسائل تضاف لأول مرة في محاكم المملكة، ما يشكل تفعيلاً مهماً لدور الباحث القضائي ونقلة نوعية تزيد من كفاءة الجهاز العدلي، والذي سرعان ما ينتقل أثره إلى السوق التجاري وقطاع الأعمال واستقرار المعاملات. وفي هذا المقال أهدف إلى تقديم فكرة متكاملة تشرح وظيفة الباحث القضائي وأهمية وجوده والفائدة المرجوة منه، والمهارات المطلوبة، بناء على ما دونته من مقابلات واطلاع عن قرب مع عدد من الباحثين القضائيين في الولايات المتحدة، وكذلك قراءة في الواقع التنظيمي للباحث القضائي في المملكة.
ثالثاً: المهارات
وظيفة الباحث القضائي تتطلب امتلاك مهارات مناسبة ليتسنى القيام بالمهام المطلوبة منه، وسأذكر هنا ثلاث مهارات أساسية، وهي إجادة مهارة البحث العلمي، وحسن التواصل مع القاضي، والقدرة على العمل بمثابرة وإنجاز المهام.
مهارة البحث العلمي: أهم مهارة للباحث القضائي هي مهارة البحث العلمي، وهذا يشمل القدرة على طرح الأسئلة القضائية، ومعرفة مصادر المعلومات والقدرة على استخراج الأجوبة منها، فإنه ينبغي على الباحث أن يكون عالماً بمصادر المعلومات والمراجع العلمية والقضائية ومعرفة المعتمد منها، وكيفية الوصول إليها، ومن ذلك مهارة استخدام الشبكة العنكبوتية ومصادر المعلومات الرقمية والبرامج الذكية، ومعرفة كيفية توثيق المصادر وكيفية النص على المراجع التي رجع إليها في إعداد تقرير الدعوى، وكذلك فإن المطلوب من الباحث القضائي أن يكون مجيداً للكتابة القضائية والصياغة السليمة، مع إلمام بكيفية استخدام المصطلحات القضائية، والقدرة على الكتابة الواضحة والمفهومة بعيداً عن الاستطراد أو الغموض.
مهارة حسن التعامل والتواصل: من المهارات التي ينبغي أن تكون لدى الباحث القضائي هي أن ينجح في الحصول على ثقة قاضي الدائرة القضائية، وأن يكون قادراً على فهم المهام التي يطلبها القاضي، فإذا لم تكن علاقة الباحث مع القاضي جيدة أو لم يستطع فهم ما يصبو إليه القاضي وما يطلبه من أعمال، فإنه لا جدوى من وجوده، وذلك بسبب أن الباحث القضائي دوره تقريباً هو ارشاد القاضي واعلامه عن الدعوى ومقترح الحكم فيها، فإذا لم يثق القاضي بما يكتبه الباحث، فقبول القاضي لما يعرضه الباحث يصبح أمراً مشكوكاً فيه، مما يلغي أهمية وجود الباحث، وكذلك فالباحث القضائي يفترض أن يتحلى بالأخلاق الرفيعة والقدرة على التواصل وإيصال المعلومة ومخاطبة الجمهور.
العمل بمثابرة وإنجاز المهام: تزخر المحاكم بعدد كبير من القضايا، وهذا يتطلب من الباحث القضائي عملاً مضناً قد لا تكفي ساعات الدوام الرسمية لإنجازه بالشكل المطلوب، مما يضع مهارة المثابرة والجهد والاجتهاد في إنجاز الأعمال من أكثر المهارات المطلوبة في الباحث القضائي، فالباحث عادة يكون أمام مهمة سبر أغوار قضايا معقدة وحجج مركزة ومستندات مكتوبة بأسلوب خاص تتطلب فهماً وتحليلاً واستنباطاً، وبلا قدرة على مواجهة الضغوط والعمل المكثف لساعات متواصلة، يطول العمل وتكثر المهام غير المنجزة مما يفقد الهدف المنشود من إيجاد وظيفة الباحث القضائي، وهو إعانة القاضي في توفير الوقت والجهد في تهيئة الدعوى والوصول إلى الحكم الصحيح حسب الإمكان.
رابعاً: قراءة في التنظيم الحالي للباحثين القضائيين
لقد شهدت التطورات التنظيمية الإدارية للقضاء العام والمختص في المملكة صدور عدد من التنظيمات المتعلقة بأعوان القضاء، حيث نصت المادة (81) من نظام القضاء لعام 1428هـ على أن (يعد من أعوان القضاء كتاب الضبط، وكتاب السجل والباحثون، والمحضرون، والمترجمون، والخبراء، وأمناء السر، ونحوهم، وتصدر لائحة بقرار من وزير العدل بعد الاتفاق مع رئيس المجلس الأعلى للقضاء تبين القواعد والإجراءات المنظمة لأعمالهم).
وقد كان تنظيم أعوان القضاء محكوماً بأحكام نظام تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي لعام 1372هـ في الباب الرابع والذي نظم مهام عدد من أعوان القضاء إلا إن النظام لم ينظم أعمال الباحث القضائي، ثم صدرت اللائحة المنظمة لأعمال أعوان القضاء بموجب قرار وزير العدل (رقم 50335) وتاريخ 8/7/1435هـ، والتي عرفت أعوان القضاء بأنهم: (من يعين الدائرة في عملها المنصوص عليها نظاماً.) (م.1) وقد نصت اللائحة على أن (يعين في كل محكمة باحثون متخصصون في الجوانب الشرعية، والنظامية، والاجتماعية، ونحو ذلك.) (م.4) وقد بينت اللائحة الأعمال والمهام المطلوبة من الباحث القضائي وهي على وجه التفصيل الآتي: (1-إعداد البحوث والدراسات. 2-إبداء المرئيات، وتقديم الاستشارات، والتوصيات. 3- دراسة القضايا والمعاملات. 4- الاشتراك في اللجان المشكلة لإبداء الرأي في المسائل الشرعية، والنظامية، وغيرها بعد تكليفه بذلك من رئيس المحكمة أو الدائرة -بحسب الأحوال-. ٥- جميع ما يرد إلى الدائرة من أنظمة وتعليمات، وتنظيمها، وفهرستها.)
وبهذا تعتبر اللائحة المنظمة لأعمال أعوان القضاء الأولى من نوعها في تنظيم أعمال الباحث القضائي، ومن قراءة نصوص اللائحة يمكن القول بأنها عالجت مهام الباحث القضائي على كونه من موظفي المحكمة ممن يكلف بتقديم البحوث والدراسات، ودراسة القضايا وتقديم الاستشارات، وليس مرتبطاً بشكل كامل بالدائرة القضائية وعمليه تهيئة القضايا المنظورة لدى الدائرة القضائية وتقديم تقرير المحكمة كما هو معتاد في المحاكم في كثير من الدول كالمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها ممن يكون مرتبطاً بقاضي واحد.
وفي عام 1441هـ -2019م صدر نظام المحاكم التجارية بموجب المرسوم الملكي (رقم م/93) وتاريخ 15/8/1441هـ، ثم لائحته التنفيذية بموجب قرار وزير العدل (رقم 8344) وتريخ 26/10/ 1441هـ، وقد اشتمل النظام ولائحته التنفيذية على أحكام ومسائل تطبق لأول مرة تواكباً مع تطورات سوق الأعمال والمنازعات التجارية، ووفقاً لتطلعات رؤية المملكة ٢٠٣٠م. فقد نص نظام المحاكم التجارية في مادته (23) على أن (تتولى “الإدارة المختصة” في المحكمة تهيئة الدعوى، بما في ذلك…4- إعداد التقرير الأولي عن الدعوى).
وقد حوت اللائحة التنفيذية عدداً من المسائل التطويرية في نطاق تهيئة الدعوى القضائية بعد قيدها في المحكمة وقبل نظرها من الدائرة القضائية في الفصل الثالث من الباب الثاني (تهيئة الدعوى وإدارتها)، فقد نصت اللائحة على أن تتولى “الإدارة المختصة تهيئة الدعوى، ويشمل ذلك…1- إعداد التقرير الأولي عن الدعوى، على أن يتضمن دراسة المسائل الأولية وتحديد محل المنازعة بين الطرفين، ونطاق الأدلة…) (م.83). كما نظمت اللائحة أن على الإدارة المختصة إعداد ما يسمى بـ( خطة إدارة الدعوى) والذي يشمل تصنيف الدعوى ووصفاً مختصراً لها والطلبات والجدول الزمني المتوقع لنظر الدعوى والإجراءات المطلوبة (م. 84)، ثم بعد اعتماد رئيس الدائرة لخطة الدعوى تحال الخطة للإدارة المختصة في المحكمة لتنفيذها (م. 85) والتي تتولى وفقاً للائحة إدارة الدعوى وفق الخطة المعتمدة (م. 86)، وبعد إجراء تبادل المذكرات في حال طلب ذلك في الخطة، نصت المادة (87) من اللائحة التنفيذية على أن (تعد الإدارة المختصة تقريراً نهائياً، يتضمن الآتي: أ-ملخصاً للإجراءات التي تمت في القضية، وخلاصة وافية للطلبات والبينات والدفوع. ب- دراسة قانونية وافية عن القضية، مشتملة على المبادئ والسوابق القضائية ذات الصلة. ج- اقتراح مشروع الحكم).
ويتبين من استقراء نظام المحاكم التجارية ولائحته التنفيذية تفعيلاً لدور الباحث القضائي كما لم يكن من قبل، حيث قام النظام واللائحة على فكرة إنشاء إدارة مختصة لإدارة تنفيذ خطة للدعوى القضائية التجارية يتم تهيئتها واعتمادها وأيضاً تبادل المذكرات القضائية بين الخصوم ومن ثم كتابة تقرير نهائي هو أشبه بتقرير المحكمة المشار إليه في الأعلى، وذلك قبل الجلسة التحضيرية، ولكن الفرق الجوهري هو أن الباحث القضائي وفقاً للنظام واللائحة التنفيذية سيكون تابعاً لإدارة المحكمة دون ارتباط لصيق بقاضي أو دائرة قضائية واحدة، مما قد يقلل استفادة الباحث القضائي من خبرة ومعرفة القاضي وملازمته، وكذلك ارتباط القاضي ومعرفته بالباحث وطمأنينته للالتزام الباحث برؤته واجتهاده وطريقته الخاصة في الحكم، فلكل قاضي طريقته.
ومن المسائل الجديدة التي قد تضيف الكثير في مسار تعزيز الدوائر القضائية في المحاكم التجارية بالباحثين القضائيين، وتحل إشكالية ندرة المختصين المتفرغين لأعمال هذه الوظيفة، ما نص عليه نظام المحاكم التجارية في مادته (الرابعة) على أن (يختار أعوان القضاء في المحكمة من ذوي الكفاية وفق الإجراءات النظامية، ويجوز الاستعانة بخريجي ودارسي تخصصي الشريعة والأنظمة أو ما يعادلهما للعمل في المحكمة؛ وفق قواعد يصدرها وزير الوزير بالتنسيق مع وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية). فهذا النص النظامي أعطى مزيداً من الأهمية لوظيفة الباحث القضائي بأن منح صلاحية أن تشغل من دارسي وخريجي الشريعة والأنظمة وفق قواعد يصدرها وزير العدل.
فمن خلال هذا الحكم النظامي من الممكن لوزارة العدل أن تمكن طلاب الشريعة والأنظمة ممن هم في مرحلة التدريب من التدرب في المحكمة كباحثين قضائيين لمدة فصل دراسي أو فصلين دراسيين، وكذلك تمكين حديثي التخرج للتدرب في المحكمة كمحامين متدربين لغرض إكمال سنوات الخبرة للحصول على رخصة المحاماة، وهذا بالتأكيد سيكون أفود للطلاب والمتخرجين من العمل في المحكمة والتواصل مع القضاة والتعرف على الجانب العملي بشكل مباشر، بدلاً من التدرب عند بعض مكاتب المحاماة أو المؤسسات الصغيرة أو المتوسطة والتي قد لا يتوافر فيها التجربة الغنية التي تخرج متخصصين يجمعون بين التأهيل العلمي والعملي، ولا شك أن من تدرب كباحث قضائي في محكمة تجارية لمدة سنة أو أكثر سيكون في منزلة متميزة تقوي من فرصته في الحصول على وظيفة مستشار قانوني في شركات محاماة أو مؤسسات وشركات متميزة كما هو المعمول فيه عالمياً.
وأختم مقالي باقتراح تعزيز مصادر المعلومات المتوفرة للباحثين القضائيين بحيث تكون نواة برنامج تقني قضائي يضم الأحكام القضائية والمبادئ العامة والبحوث المتخصصة، وكذلك تعدية قواعد الاستعانة بدارسي وخريجي الشرعية والأنظمة لتكون عامة في القضاء التجاري وغيره من المحاكم، وكذلك توسيع نوعية الباحثين القضائيين المستهدفين بأن يكونوا على مسارين: (1) مسار استقطاب الأكفاء المتميزين من الباحثين القضائيين ممن يكون له خبرة عملية في المحاماة والبحث العلمي. (2) مسار الاستعانة بالدارسين لتخصص الشريعة والأنظمة لغرض التدريب، وكذلك حديثي التخرج ممن يرغب للعمل في المحكمة لبعض الوقت أو التعاقد المؤقت وفق أحكام أنظمة الموارد البشرية، بحيث يكون لكل دائرة قضائية باحثين قضائيين أحدهما على وظيفة ثابتة.
ولا شك بأن جهاز القضاء في المملكة ليس هو ذلك الجهاز السابق فقد شهد خلال فترة أعوام بسيطة تطورات وقفزات هائلة، بل إن المتخصص في العلوم القضائية والأنظمة غير المتابع لهذه التطورات بشكل مستمر قد يجد صعوبة بالغة في تتبع كثير من تطورات المسائل الإجرائية والقواعد القضائية التي جرى عليها العمل في السابق، مما يحتاج إليه المتخصص مراجعة جادة لهذا الزخم التطويري الذي يقوم عليه المجلس الأعلى للقضاء ووزارة العدل بجهود مباركة من معالي وزير العدل رئيس المجلس الأعلى للقضاء، معالي الشيخ الدكتور/ وليد بن محمد الصمعاني وفقه الله، وفقاً لتوجيهات القيادة الحكيمة سلمها الله، من حرص كبير على تدعيم القضاة بالباحثين المتميزين وتوفير الوسائل العملية لإيجاد فرص التدريب الفعال لدارسي وخريجي الشريعة والأنظمة في المملكة، سائلاً الله تعالى بأن يسدد هذه الجهود ويوفق العاملين فيها إلى كل ما فيه صلاح.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال