الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تُعتَبَر عملية وضع الميزانية في زمن جائحة كوفيد-19 من أصعب المهام العلمية والعملية؛ والسبب هو أنَّ حُسن التوقُّع والتقدير هو من أركان نجاح الميزانية المستقبلية لأية دولةٍ، في الوقت الذي سبَّبت جائحة كوفيد-19 نوعاً من الصداع العالمي لجميع المُخطِّطين والمنظِّرين الاقتصاديين.
فلم يعدْ أحد يَضمَنُ ما سيحدث غداً في ظلِّ تحوُّر فيروس كوفيد-19 الذي يزداد خطورةً على صعيد الانتشار، وما يَتبَعُهُ من إجراءاتٍ حكوميةٍ تؤدِّي إلى تعطيل العمليات التجارية والصناعية، وهكذا تَرجِعُ حركة الاقتصاد العالمي إلى الوراء ويبدأ في التباطؤ المُقلِق.
وقد كانت ميزانية المملكة واقعيةً جداً على هذا الصعيد، حيث جاء في بيان وزارة المالية – برنامج الاستدامة العامة 2022، مجموعةٌ من التحديات (ص72) التي قد تَقِفُ في وجه طموحات التحوُّل الاقتصادي والتغييرات الهيكلية المُزمَعِ تنفيذها في الاقتصاد السعودي، أهمُّها:
التضخم؛ وهي مشكلةٌ عالميةٌ قد تَنْعَكسُ على المملكة، حيث إنَّ الانتعاش الذي ترافق مع انتهاء الموجات الأولى من انتشار فيروس كوفيد-19، أدَّى إلى ارتفاع الطلب على السلع والخدمات، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ في ظلِّ حالةٍ من الرغبة للعودة إلى الحياة الطبيعية، لكن المشكلة كانت في نقص التوريد بعد الأضرار الجسيمة التي تسبَّبت بها الجائحة على صعيد الصناعة والتجارة والنقل.
بالتالي، أصبح الطلب العالمي على السلع والخدمات أكبر من العرض، لهذا ارتفعت أسعار السلع والخدمات عالمياً دون وجود ارتفاعٍ في الجودة أو المواصفات، وهو ما يَعنَي الدخول في حالةٍ من التضخُّم العالمي؛ أي غلاء السلع والخدمات في مقابل انخفاض القيمة الشرائية للعملات.
لقاحات كوفيد-19 في مواجهة المتحوِّرات المستجدَّة؛ لا يَكَادُ يَنتَشِرُ لقاح كوفيد-19 ويؤثِّر إيجاباً في نقص انتشار الجائحة، حتى يَتَفَشَّى في المقابل متحوِّرٌ جديدٌ من الفيروس أكثر خطورةً من السابق، فكنَّا نتحدث عن “ألفا”، ثم “دلتا”، والآن “أوميكرون”.
والمشكلة، أنَّ اللقاح المُصنَّع لمواجهة أحد المتحوِّرات قد لا يكون فعَّالاً بنفس الدرجة مع المتحوِّر الجديد، وهكذا يدخل العالم في موجاتٍ من الأزمات الصحية والاقتصادية مع ظهور كلِّ متحوِّرٍ آخرٍ، والمملكة ليست في منَأَى عن هذه الظروف الصحية.
هذه المتحوُّرات، تؤدِّي بشكلٍ مباشرٍ إلى عرقلة إمداد السلع والخدمات على مستوى العالم، فيما يكون النمو الاقتصادي العالمي ثابتاً، وهذا سيؤدِّي إلى التأثير سلباً على العوائد، وهي ظروفٌ تُنذِرُ بحدوث تباطؤٍ اقتصاديٍّ عالميٍّ، خاصَّةً إذا استمرَّ الفيروس بالتحوُّر ولم يصدرْ لقاحٌ قادرٌ على كَبْحِ جماح انتشاره.
سوق النفط؛ بعد أن بدأت السوق بالتعافي إِثْرَ ازدياد مُعدَّلات التلقيح ونقص انتشار الفيروس، ارتفعت أسعار النفط بالنظر إلى بدء التعافي في الطلب على السلع والخدمات، وعودة حركة التصنيع إلى الانتعاش.
لكن الوضع الصحي العالمي غير المُطَمْئِنِ، قد ينعكس على شكل تقلُّباتٍ كبيرةٍ في أسعار النفط، حيث كان سعر برميل خام برنت قد بلغ 71.3 دولار أمريكي عام 2018م، ثم انخفض بعد تفشِّي الكوفيد-19 إلى 42.0 دولار مع نهاية عام 2020، ثم عاد ليرتفع بشكلٍ كبيرٍ حتى بلغ 69.5 دولار في أكتوبر 2021.
هذا التذبذب يَنْشُرُ حالةً من الرؤية الضبابية أمام واضع الميزانية، فعلى الرغم من أنَّ المملكة تسير نحو تغييرٍ هيكليٍّ باتجاه الاستدامة، إلا أنَّ الموارد النفطية مازالت تُشكِّلُ أغلبية الموارد العامة في ظلِّ عدم انتهاء تنفيذ الاستدامة، والمساهمة الجوهرية لفوائض النفط في الميزانية.
بناءً عليه، لا بدَّ من العمل على موضوع الاستدامة في ميزانية 2022، ليس فقط بغاية الانتقال نحو الفائض، بل أيضاً بغرض استكمال الصورة التي رَسَمَتها رؤية 2030، كل ذلك في ظلِّ التحديات التي فرضتها الجائحة العالمية؛ الأمر الذي يستوجب العمل على تحقيق النمو والتشغيل للكوادر والموارد في الوقت الذي يبدأ التباطؤ الاقتصادي العالمي.
وعلى الرغم من الظروف الاقتصادية العالمية غير المُطَمْئِنَة بعد انتشار سلالة أوميكرون، فإنَّ اقتصاد المملكة يبدو مُتَمَاسِكَاً وقَادِرَاً على تجاوز الآثار المالية السلبية للأزمات الصحية الفجائية، حتى أنَّ كلَّ أزمة الكوفيد-19 لم تستطعْ عرقلة تحوَّل المملكة نحو الاستدامة الاقتصادية.
أي أنَّ الاقتصاد السعودي ليس فقط قادرٌ على تجاوز الأزمة، بل قادرٌ -بإذن الله- على استكمال مسيرة التحوُّلات الهيكلية التي رسمتها رؤية 2030، وكلُّ ما هنالك هو أنَّ تنفيذ الرؤى الاقتصادية أصبح يحتاج إلى إجراءاتٍ أكثر مرونةً ومُضَادَّاتٍ ماليةٍ تجاه التأثيرات السلبية للمتحوِّرات الجديدة، وأزمة الإمداد العالمية، وتقلُّب سعر النفط.
بهذه الطريقة، تستطيع المملكة تجاوز مخاطر التضخم ولن يقف التباطؤ الاقتصادي في وجه طموحها، بل على العكس، قد يُمثِّل نموذج المملكة إلهاماً لباقي الدول حتى تَقتَدِي به؛ وهو ما سيجعل الاقتصاد السعودي أكثر جذباً للاستثمارات، وأكثر مناعةً ضد أية أزمات مالية أو اقتصادية عالمية قد تظهر في المستقبل.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال