الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
امتداداً للحراك القانوني والعمل التشريعي في المملكة خلال السنوات الأخيرة، وتحقيقاً لما أشار إليه صاحب السمو الملكي ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان-حفظه الله- في فبراير الماضي 2021 من أن المملكة تسير وفق خطوات جادّة نحو تطوير البيئة التشريعية، من خلال استحداث وإصلاح الأنظمة التي تحفظ الحقوق وتُرسِّخ مبادئ العدالة والشفافية وحماية حقوق الإنسان وتحقّق التنمية الشاملة، وتعزّز تنافسية المملكة عالمياً من خلال مرجعياتٍ مؤسسيةٍ إجرائيةٍ وموضوعيةٍ واضحةٍ ومحددةٍ، فقد تمت الموافقة على نظام الإثبات ليكون باكورة المنظومة التشريعية المشار إليها.
وكما أشار إليه سمو ولي العهد في حديثه للمذيع عبدالله المديفر أبريل 2021 في برنامج الليوان من أن ” نظام الإثبات يتواكب مع متغيرات الحياة مع المحافظة على ركائز الدولة السعودية المتمثلة في دستورها: القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، والتزامها بالإتفاقيات الدولية، مع الأخذ في الإعتبار أبرز الممارسات الدولية في هذا الجانب.
وبعد صدور المرسوم الملكي بالموافقة على نظام الإثبات، وقراءة نسخته النهائية، هذا المقال سيحاول تسليط بعض الإضاءات عليه تعليقاً وتوضيحاً، بالإضافة إلى أبرز الأحكام النظامية الواردة فيه.
ابتداءاً وبعيداً عن التطبيق القضائي أعتقد بأن هذا النظام يمثل ثورة في العمل الأكاديمي القانوني في الجامعات السعودية، فبعد أن كنا نعتمد على القوانين المقارنة الخليجية والعربية في خلق مادة علمية للقانون المدني لتدريسها في كليات القانون، سواء من خلال القانون المدني المصري، مروراً بالأردني، وانتهاءً بوثيقة الكويت للقانون (النظام) المدني الخليجي، أصبح لدينا الأساس القانوني الذي سيشكل مع نظام التنفيذ، ومشروع نظام المعاملات المدنية-بعد إقراره- أساساً يمكن أساتذة القانون من خلق مادة علمية لطلاب القانون من الأنظمة الصادرة من السلطة التنظيمية في المملكة، بدلاً من تدريسهم قوانين مقارنة لن تتم الاستفادة منها في الممارسة العملية، وهو أحد الأسباب التي خلقت فجوة بين التدريس النظري والتطبيق العملي لدينا.
رجوعاً للنظام، فإن أبرز ما يتميز به مسايرته للمتغيرات التقنية والرقمية من خلال إفراد باب كامل باسم: الدليل الرقمي الذي عالج تعريف الدليل الرقمي، وتصنيفه، وحجيته لأطرافه وللغير. كما يلاحظ بأن النظام تضمن مبادئ تعد استمراراً لتطبيق ما ورد في الشريعة الإسلامية، واستقر عليه العمل في المحاكم، مثل البينة على المدعي واليمين على من أنكر، والبينة حجة متعدية والإقرار حجة قاصرة، ولايجوز للقاضي أن يحكم بعلمه، وهي مسألة أصولية، ناقشها علماء الأصول تقريعاً ومناظرةً، وهنا استذكر المقولة الشهيرة للفقيه العالم الإمام: محمد بن إدريس الشافعي -رحمه الله- عندما قال: لولا قضاة السوء لقلنا بجواز حكم القاضي بعلمه.
كما تناول نظام الإثبات حكماً متفرعاً لما استقر عليه في القانون التجاري يتعلق بأهلية الأداء للطفل المميز، وذلك عندما قرر بأن إقرار الطفل المميز يصح في حدود ما أذن له في البيع والشراء، وهذا الحكم يدرس في القانون التجاري. أيضاً من الأحكام الرائعة في النظام الجديد هو التفريق بين المحرر الرسمي والعادي، وتعريف كلا منهما، ونطاق حجيتهما، وهو ما يعطي استقراراً في تطبيق ما تضمنه المحرر العرفي على وجه الخصوص، كما منح النظام المتخاصمين الإتفاق في تحديد قواعد محددة في الإثبات بشرط ألا يخالف ذلك النظام العام، وهو ما يتفق مع ما يتميز به القانون التجاري من حيث سهولة الإثبات فيه بأي طريقة.
من اللافت للنظر استخدام المنظم السعودي بعض المصطلحات المستخدمة في القانون المدني المقارن، فعلى سبيل المثال تضمنت المادة(٢٩) استخدام مصطلح (الخلف)، وهو مصطلح شائع الاستخدام في القوانين المدنية المقارنة، وفي شروحات فقهاء القانون المدني، وأذكر هنا أحد قضاة التنفيذ سبق أن سألني: ما المقصود بالخلف العام في لقاء علمي سأل فيه أحد الحضور عن الأحكام المتعلقة بالخلف العام في نظام التنفيذ، وأجبته بأن هذا المصطلح شائع الاستخدام في القانون المدني، والمقصود به الشخص الذي يخلف غيره في ذمته المالية كلها، مثل الوارث لجميع التركة. ولعل ما يجدر الإشارة إليه من أن هذا المصطلح “الخلف” تمت الإشارة إليه في أحد الأنظمة المعمول بها والمطبقة في المملكة وهو القانون الخليجي للعلامات التجارية.
أخيراً، يتوافق نظام الإثبات مع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، فعلى سبيل المثال تضمن نظام الإثبات في المادة (الثالثة عشرة) “دون إخلال بالتزامات المملكة في الاتفاقيات الدولية التي تكون طرفاً فيها، للمحكمة أن تأخذ بإجراءات الإثبات التي جرت خارج المملكة؛ ما لم تخالف النظام العام”، هذا النص يقودنا إلى بعض الاتفاقيات الدولية، كإتفاقية برن ١٨٨٦ التي تنظم حق المؤلف والتي تقوم على غياب مبدأ الإجراءات الشكلية في إضفاء الحماية القانونية للمؤلف الذي لا يجب عليه القيام بأي عمل؛ لأن عمله يعد محمياً بمجرد ابتكاره، حيث يأتي نظام الإثبات مكملاً للإتفاقية سالفة الذكر من خلال وضع نصوص نظامية واضحة في حال انتهك حق المؤلف يتمكن من خلالها إثبات تثبيت المصنف، و يساعده في تقديم ذلك للمحكمة.
خطوة تشريعية رائعة بالموافقة على نظام الإثبات، وقد تكتمل هذه الخطوة ببرنامج حكومي يتابع تطبيقه والصعوبات التي تواجه تنفيذه من قبل المحاكم والمحامين على حد سواء، والرفع بالمقترحات لتعديله إذا استلزم الأمر؛ ولعل لنا في نظام التنفيذ خير مثال على ذلك. ولازلنا متطلعين لإقرار بقية سلسلة منظومة التشريعات التي أعلن عنها سمو سيدي ولي العهد -حفظه الله-.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال