الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لفت انتباهي سكان أحياء جدة الذين غادروا منازلهم بعدما أخلت أمانة جدة تلك الأحياء لهدمها وتطوير تلك المنطقة لتصبح اكثر جاذبية وتحويلها الى منطقة تجارية تستقطب السياح والزوار.
الملفت في هذه المناظر أن السكان اتخذوا لنفسهم طريقة جذبت انتباه الناس، حيث احتفلوا بالمغادرة حاملين الطبول وترديد الأهازيج والتجول داخل الحي في منظر مؤثر، وهؤلاء الناس من حقهم أن يحتفلوا فبعض البيوت عمرها اكثر من 40 عاما، والناس تتأثر بسرعة خاصة أن كانت الأحياء ضيقة والبيوت متلاصقة، تسمع فيها انفاس الجيران، وتسمع معها الام بعض الأسر وأحزانها، وتسمع أيضا أصوات الفرح ومشاركة البيوت بأطباق الطعام.
نؤكد في هذا المقال اننا لسنا ضد التطور والتغيير نحو الأفضل، فنحن أمام مرحلة جديدة يجب إن يفهمها سكان هذه الأحياء، ستختفي دفء القلوب والروابط الاجتماعية التي عرفت عنها الأحياء، وندخل مرحلة جديدة، المخططات والعمائر السكنية والشقق المغلقة ونمط جديد من السكن “يا جاري إنت في دارك وانا في داري”، ستنتهي مرحلة الحارات الضيقة والأزقة، جودة الحياة ستغير الكثير من المفاهيم ستنقلنا الى الأفضل بخدمات أحسن.
سيتم ضخ أكثر من 75 مليار ريال لتحسين المناطق التي تم هدم منازلها، من بنى تحتية وأبراج فندقية ومشروعات استثمارية وتخلق الألاف من فرص العمل للشباب والشابات. هدم الأحياء القديمة في جدة هو إعلان عن ولادة أحياء جديدة بفكر جديد ونمط جديد، وأيضا جيل جديد، ويوما ما سوف نشتاق لمركاز الحارة ودكتها ولمة الناس نهاية الأسبوع.
الوضع السابق ان هؤلاء الناس قاطني تلك الاحياء، أنستهم تقارب القلوب أن أحياءهم كانت بدون شبكات صرف صحي ومواسير مهترئة تختلط شبكات مياه الصرف الصحي مع شبكات مياه الشرب، وحينما تمطر سماءه بالمطر، كانت تدخل الى بيوتهم وتتلف مفارش منازلهم، كانوا يهربون الى السطح وهم يضحكون غير مكترثين بالخسائر التي لحقت بهم أو بالأثاث الذي سحبته السيول، ولا حتى بشبكة الأسلاك المعقدة على أعمدة الإنارة في أحياءهم وانتشار القطط، وظلمة الليل عندما يحل الظلام، فيعض المصابيح تعمل والبعض منها تحولت الى أشكال ديكور وأسلاكها وغطاء أعمدتها إما قد تدلت بشكل عفوي، أو إنها غير موجودة.
تدخل هذه الأحياء فتتذكر أم كلثوم بعبارة مكتوبة على جدار احد البيوت “حسيبك للزمن” وكلمات الحب والغرام “ستذكرني اذا عاشرت غيري”، والصراع الأبدي بين شبابها ” جدة اتي وبحر” و “جينا للأهلي من كل مدينة” وفي نهاية الأسبوع تكون على موعد مع لمة أهل الحارة في المركاز، وعلى انغام السمسمية ولعبة المزمار وبعض المجسات والمواويل، وبقالات متناثرة هنا وهناك وسجل عندك في الدفتر الى أخر الشهر، ومحلات اللحام وتصليح لي الشيشة ودكان الحلاقة ومحلات تصليح الملابس الممزقة والأحذية المقطعة التي امتهنها بعض كبار السن في ركن الحارة، وخروج باعة الخضار والفواكه على عرباتهم، وفي المساء تمضي وقتا ممتعا وأنت تتجول وسط البسطات وبيع الملابس شواحن الجوال.
جمال هذه الأحياء الاجتماعي وتوادهم وتراحمهم، كانت تخفي وراءها بعض الآلام والصور التي كانت تشوه سكانها، الكثير من البيوت بعدما هجرها أصحابها الأصليون، تحولت الى بيوت مهجورة أصابها الإهمال، استغلها ضعاف النفوس وحولوها الى مستودعات ومخازن لتجارة منتجات غذائية وتغليف وتعبئة، أصبحت الكثير من الأحواش والبيوت مصدر لتسريب الكثير من المنتجات الى الأسواق، على إنها صالحة للاستخدام، الكثير من المخالفين حولوا البيوت التي يسكنون فيها الى أماكن لممارسة ما هو ممنوع.
من كان يصدق أن بعض البيوت كانت تخرج منها بضائع مغشوشة بمئات الملايين، وأغذية غير صالحة للاستخدام الآدمي من لحوم وخضروات، وأيضا مصانع لتصنيع خمور مغشوشة، من كان يصدق أن هذه الأحياء التي يسكن فيها الناس البسطاء والطبقات الكادحة، يخرج منها اشهر الساعات العالمية المقلدة والأطعمة الفاسدة بملايين الريالات.
لا ألوم أمانة محافظة جدة والجهات المسؤولة، لأنها أهملت هذه الأحياء بتوجيه الرقابة فيها، وحتى لا نشوه سمعة أهلها من هذه الأنشطة، بل أنها أهملت هذه الأحياء من كافة الجوانب، من خدمات بلدية ونظافة، ومراقبة المحلات، ومنحهم التراخيص الرسمية، والتأكد من سلامة وصحة العاملين فيها، والتأكد من سلامة المطاعم، ووقفت معها الجهات الحكومية الأخرى التي لم تحرك ساكنا منذ 40 عاما، فتوقف نموها من ترميم وإصلاح أو هدم وإعادة بناء، لم تكلف نفسها الكهرباء في إعادة إنارة الأحياء وإصلاح أعمدتها حتى لو أنها من مهام البلدية، وبقيت شبكات المياه والصرف الصحي كما هي تطفح من وقت لآخر لتزكم انف أهل الحي وتزيد الشوارع إتساخا.
كل ما نعرفه هو أن عدادات المياه وصلت بسرعه الى هذه المنازل، وبقي أهلها يشتكون من ارتفاع فواتيرها، وتحولت شوارع هذه الأحياء الضيقة الى ملجأ للسيارات التالفة. هذه الأحياء أهملتها الجهات الحكومية في توصيل الخدمات، فلجأ أهلها الى أسلوب التحايل في الحصول عليها، إما برشوة أو حب خشوم، ولهذا تجد الأسلاك متشابكة، ومواسير المياه تسلك طرق ملتوية.
لم يقدم وقتها المسؤولين الحكوميين أفكارا ومقترحات في كيفية تطوير هذه الأحياء بحيث تكون نظيفة وخالية من الشكوك، ولم يتعاون بعض أصحاب البيوت، فتركوا بيوتهم مهجورة تنبشها الأيدي وتعبث بها، والا لكانت بعض الأحياء أو جزء منها، كان يمكن أن تتحول الى أحياء قديمة نموذجية، تزينها أرضيات ومنازل ملونة، وتتحول الى مصانع صغيرة تديرها الشركات الكبرى وتستفيد الأسر المنتجة، ونجلب لها الزوار والسياح لمشاهدتها.
طبعا هدم هذه الأحياء وعددها 37 حي تم التخطيط على هدمها منذ سنوات، ويصل إجمالي مساحات هذه الأحياء أكثر من 31 مليون متر مربع، منها 9 أحياء مساحتها تزيد عن مليون متر مربع، وهي أحياء غليل، الثعالبة، الهنداوية، مدائن الفهد، النزلة اليمانية، وبني مالك والربوة وقويزة والعزيزية. حيين مساحتهما السكانية كبيرة تتجاوز مليوني متر مربع وهي المنتزهات والروابي.
أما أكبر الإحياء التي سيتم هدمها نهاية عام 2022 هو حي الجامعة وتبلغ مساحته نحو6 ملايين متر مربع. الملفت في الجدول الزمني لإزالة الأحياء، هو أن حي غليل وبترومين، كل الخطوات التي نفذت في الحي، استغرقت يوما واحدا فقط، تم إشعار الأهالي بالأخلاء في 23 أكتوبر 2021 وفي نفس اليوم تم فصل الخدمة، وبدا تنفيذ امر الإزالة في نفس اليوم، أليس من المفروض منح هؤلاء الناس سواء أهالي وأصحاب مستودعات، وقت أطول لحين نقل أمتعتهم والبحث عن بديل.
طبعا صاحب إخلاء نحو 150 الف مبنى، ومغادرة اكثر من 300 الف أسرة سبب ربكة، في قطاع سيارات الشحن التي تنقل العفش، البعض منهم نقلها في سيارته، أو استأجر، وفرصة لبعض مؤسسات نقل العفش في التكسب مع انتعاش السوق، كما انتعشت معها العقارات في أحياء أخرى، ولا نعرف أين ذهب أصحاب المستودعات وأين نقل أصحاب المحلات التجارية، لا يقل عن 30 الف محل تجاري.
الكثير من الأهالي كانت مقرات عملهم قريبة من تلك الأحياء التي يسكنون فيها من حراس امن وموظفون في إدارات حكومية والطبقات الكادحة والفقيرة والمتوسطة، لانهم كانوا يدفعون إيجارات منخفضة، حتى استهلاكهم للوقود قليل وأجرة السيارات معقولة، لا اعرف هل أوجدت الجهات الحكومية البديل المناسب لهؤلاء السكان، ألوم مؤسسات المجتمع المدني في جدة، التي كانت تسمع وتتفرج وكأن الأمر لا يعنيها، إهمال هذه المجتمعات سوف يضاعف من أعباء الجمعيات الخيرية، الكثير منهم سيفقد وظيفته، وسيغادر أبناءهم المدارس، ستزيد تكلفة المعيشة من إيجار ومواصلات وشراء مستلزمات.
استغرب كيف لم تشكل الجمعيات الخيرية فيما بينها خلية نحل، على الأقل توفر لهم وسائل نقل العفش أو شراء بعض الاحتياجات لهذه الأسر، وهي تعرف أن الكثير منهم من الأسر الفقيرة، لا احد يعرف ما مصير الأربطة والمساكن الخيرية التي كان يسكن فيها كبار السن والعجزة على حساب المحسنين.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال