الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في كُل أنحاء العالم، ومع التزايد في النمو الاقتصادي والاجتماعي والمعرفي تبرز الحاجة لوجود التشريعات الملائمة التي تضبط حياة الناس واقتصادهم، ومع تعدد القطاعات الحكومية وانتشارها تكاثرت الجهات الحكومية التي تصدر هذه التشريعات، فكل جهة حكومية تشرف على قطاع معين لا تنفك عن إصدار السياسات التي تنظم أعمال القطاع الذي تشرف عليه لتساهم في نموه ولو كان ذلك أحياناً على حساب تعثر قطاعات اقتصادية أخرى.
على مستوى الدول نشاهد دائماً نوعاً من الوضوح على مستويات سياسات الاقتصاد الكلي، إلا أن ما يسميه عدد كبير من الخبراء في القطاع الخاص “فوضى التشريعات” يشاهد بوضوح حين النزول لمستوى السياسات القطاعية في العديد من الدول، وفي الغالب أن من يدفع ثمن هذا الزحام التشريعي القطاعي هو القطاع الخاص أولاً والمستهلكين ثانياً تبعاً لذلك.
إصدار السياسات والامتثال لها والرقابة عليها والتفتيش وما يتبع ذلك من مخالفات هي وجوه متعددة لعملة تشريعية واحدة. وهي أداة حماية ونمو تمكن الحكومات من تعزيز الاقتصاد والمصالح الوطنية، وعالمياً تقدر تكلفة الالتزام بالتشريعات من قبل القطاع الخاص مبالغ تتجاوز مئات المليارات من الدولارات سنوياً (تقدر في القطاع المالي دولياً بقرابة 180 مليار دولار سنويا) وهي مبالغ ترصدها وتنفقها الشركات فقط للتعاطي مع هذه السياسات والتعديل على انظمتها الداخلية للالتزام بها ولا يشمل ذلك المخالفات التي قد تحدث بسبب عدم الالتزام بهذه السياسات.
هذه التكاليف وغيرها يمكن تخفيضها بشكل كبير متى ما سارعت الحكومات للعمل في صناعة التشريعات عبر محورين رئيسيين الأول: هو تبني مفهوم “التشريع الصديق للأعمال” عبر “البيئات التجريبية التشريعية” حيث يكون القطاع الخاص شريكاً في عملية بناء التشريعات قبل صدورها وتختبر الجهات الحكومية واقعية وآثار التشريعات التي تنوي إطلاقها قبل أن تطلقها فعلياً. وهذه الطريقة هي ايضاً التي توصي بها ادارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية بالأمم المتحدة.
والمحور الثاني والذي قد يكون أكثر فعالية في تخفيض هذه التكاليف ما أسميه “التشريع الرقمي” أو “التشريع الخوارزمي” وهو ما يعرف اليوم عالمياً بمفهوم (policy as code) حيث تكتب التشريعات بطريقة تشبه برمجة التطبيقات وتصبح قابلة للقراءة رقمياً من الأنظمة الآلية ومن الآلة المتعلمة دون تدخل بشري. وهو علم معرفي جديد تتسابق عليه مجموعة قليلة من الدول والشركات متعددة الجنسيات.
عندما تكتب السياسات على هيئة خوارزميات رقمية، يمكن ببساطة اختبارها من قبل المستثمرين والقطاع الخاص وتحديد الفجوات بشكل آلي ودقيق، ويساهم هذا الأسلوب في بناء الثقة في المجالات القطاعية بالإضافة الى زيادة مستوى الشفافية في الجانب التشريعي بشكل جاذب للمستثمرين ورواد الأعمال. فعلى سبيل المثال، في حال حدوث تغييرات في نظام العمل أو المشتريات أو الزكاة والدخل أو غيرها وإصداره بشكل خوارزميات رقمية، فإن انظمة الشركات يمكنها قراءة هذا التعديل وتطبيقه في الانظمة الآلية بشكل مباشر بدون تدخل بشري وبدون تكلفة تذكر وبأقل اضطراب لسير أعمال هذه الشركات.
في المقابل فإن الجهات الحكومية تستفيد من رفع مستوى الامتثال من قبل القطاع الخاص وقراءة مستويات الامتثال آليا لهذه السياسات وتحقيق المنفعة من خلف صناعة هذه السياسات دون الحاجة لعدد كبير من المفتشين على أرض الواقع. وفي حال قيام الجهة الحكومية بتطوير وتحسين هذه السياسات فإنها تنعكس فورياً على كامل القطاع وتخلق القيمة المضافة فوراً دون الحاجة للانتظار أشهر و ربما سنوات. والأهم من ذلك أنه بإمكان التشريعات الرقمية الخوارزمية أن تحل مشكلة التداخل بين التشريعات القطاعية، فبشكل مركزي وبدورة تشغيل واحدة لا تأخذ سوى ثوانٍ معدودة، تظهر جميع التقاطعات التشريعية المكررة والمتداخلة بين القطاعات دون الحاجة الى عشرات الخبراء ومئات الاجتماعات ووجهات النظر المختلفة.
التشريع الخوارزمي مهم جداً لبناء ثقة المستثمر الأجنبي في التشريعات المحلية لأي دولة يريد الاستثمار فيها، فإذا كان المستثمر يستطيع نمذجة أعماله آلياً وتطبيق التشريعات الخوارزمية على انظمته الآلية قبل أن يستثمر فسترتفع لديه مستويات الأمن الاستثماري من مواجهة التحديات التشريعية غير المعروفة لديه. ولذلك تجد أن الدول التي تحرص على استقطاب الاستثمارات الاجنبية قد سارعت الركض في هذا المجال للحصول على ميزة تنافسية عن غيرها من الدول.
وختاماً فإن الرقمنة الحقيقية هي ليست رقمنة المحتوى من ورقي إلى آلي، بل رقمنة التفكير الاستراتيجي ونماذج الأعمال وآليات التنفيذ، الرقمنة أن تفكر بالآفاق الرحبة للتقنية تلك الآفاق التي غيرت مفاهيم الممكن والمستحيل ولا تزال تفعل… والله أعلم
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال