الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تَحتَاجُ اقتصاديات الدول إلى متابعةٍ دائمةٍ، ليس على صعيد التنظيم والرقابة فقط، بل أيضاً على نطاق الرصد المعلوماتي؛ وهو ما يَعنِي متابعة الجهات الحكومية لأداء الاقتصاد، وإصدار تقاريرٍ دوريةٍ عنه.
تَلعَبُ هذه التقارير دوراً في زيادة مستوى شفافية اقتصاد الدولة، وتَطرَحُ تفسيراتٍ منطقيةٍ لأداء هذا الاقتصاد، كما تَمنَحُ القائمين على تنظِيمِهِ، فرصةً للتعمُّق في الوضعيات الغامضة وتَدَارُكِ الموقف، وتَفتَحُ هذه التقارير بصيرة المستثمرين على طبيعة الاقتصاد، ووضعِيَّتِهِ، ومُستَقبَلِهِ، وما يحتاجه من مشاريع.
من هذا المُنطَلَقِ، فقد أصدرت وزارة الاستثمار تقريراً تحت مُسمَّى: “راصد الاقتصاد والاستثمار السعودي” للربع الرابع والأخير من عام 2021، أي قُبَيْلَ حلول هذا العام.
وقد كان من أهمِّ فقرات هذا الراصد، فقرةٌ بعنوان: “الأداء الفعلي للاقتصاد المحلي”، تمَّ فيها تحليلُ بعض البيانات المالية الإيجابية التي ظهرتْ مع نهاية عام 2021، ومَنحُ القارئ معلوماتٍ عن سبب التحوُّلات الإيجابية التي طرأت.
وهنا علينا أن نَقِفَ أولاً على الفرق بين البيانات والمعلومات؛ فالبيانات هي عبارةٌ عن أرقامٍ ماليةٍ خامٍ، لا تُقدِّمُ أيَّ مُؤشِّرٍ إيجابيٍّ أو سلبيٍّ، بينما المعلومات هي مادةٌ مفيدةٌ ناتجةٌ عن معالجة وتحليل البيانات.
فعلى سبيل المثال، إذا وضعنا بيانات الاقتصاد السعودي كأرقامٍ خامٍ للربع الأخير من عام 2021، فلن نَستَطِيعَ استِنتَاجَ أيَّة مؤشِّراتٍ عن تطوُّر هذا الاقتصاد، أمَّا إذا قُمنا بمعالجة هذه الأرقام، عبر مقارَنَتِهَا بأرقام الفترات السابقة؛ عندها فقط نَستَطِيعُ استنتاج المؤشِّرات الإيجابية أو السلبية، ليس هذا فقط، بل أيضاً تحديد نسبة التغيُّر بشكلٍ حسابيٍّ دقيقٍ.
فإذا نظرنا إلى الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد في الربع الرابع كبيانٍ مُجرَّدٍ، لن نَستطيع معرفة تطوُّر الاقتصاد، أمَّا إذا قُمنا بمقارَنَتِهِ مع نفس البيان لنفس الربع من العام السابق؛ عندها سيَظهَرُ الفارق بين البيانات على شكل نسبةٍ مئويةٍ إيجابيةٍ أو سلبيةٍ.
وبالرجوع إلى تقرير راصد، سنَجِدُ أنَّ الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد السعودي في الربع الرابع من عام 2021 قد ارتَفَعَ بنسبة 7.0% عن نفس الناتج في نفس الربع من عام 2020 (صـ10).
ثم قدَّمت وزارة الاستثمار تَفسِيرَهَا لهذا الارتفاع -عبر تقرير راصد- على أساس أنَّ الأنشطة النفطية قد نَمَتْ بنسبة 9.3% بالمقارنة مع نفس الأرقام خلال الربع الرابع من عام 2020؛ والسبب بالطبع هو زيادة مبيعات المملكة من النفط بالتوازي مع زيادة الطلب العالمي على الطاقة، بعد تخفيف القيود الصحية المُرَافِقَةِ لجائحة كوفيد-19 مع نهاية 2021 (نفس الصفحة).
وهكذا، تمَّ تحليل البيانات المالية (أرقام الناتج المحلي الإجمالي)، والخروج بمعلومةٍ مُستَنتَجَةٍ من هذا التحليل (معُدَّل ارتفاع الناتج)؛ ثم تمَّ تقديم تفسيرٍ لهذه المعلومة (ارتفاع نشاط القطاع النفطي تبعاً لارتفاع الطلب على الطاقة).
ثم أتْبَعَ تقرير راصد هذه المعالجة، بمجموعةٍ من المؤشِّرات الإيجابية الأخرى على نفس المنهجية؛ مثل ارتفاع معدلات الاستهلاك، والمبيعات، ومؤشرِّات الاستثمار الخاص، ومؤشِّر الإنتاج الصناعي، ومبيعات الإسمنت (صـ10).
لكن إذا أردنا تقديم تحليلٍ شخصيٍّ أكثر عمقاً، علينا النظر إلى أنَّ نمو الناتج المحلي الذي يَعُودُ سببه الرئيسي إلى نمو الموارد النفطية وليس الاستثمارية، فإنَّ هذا النمو لن يؤدِّي إلى نموٍّ فعليٍّ على صعيد الاستدامة.
بدليل أنَّ أسعار العقارات السكنية قد ارتفعتْ إلى أعلى من المستوى القياسي لها بنسبة 0.5% في الربع الأخير من عام 2021 (صـ11)؛ وهو مُؤشِّر يدلُّ على انخفاضٍ في جاذبية استثمارات مشاريع الأعمال، الأمر الذي قد دفع أصحاب رؤوس الأموال إلى الاتِّجاه نحو شراء العقارات لحفظ أموالهم.
يدعم هذا التحليل، أنَّ معدل التضخُّم قد ارتفع في الربع الأخير من عام 2021 بنسبة 1.1% عمَّا كان عليه في نفس الفترة من عام 2020، وبالإضافة إلى تفسير ذلك بارتفاع أجور النقل وفق تقرير راصد (صـ12)؛ فإنَّ أسباب التضخم تَرجِعُ أيضاً إلى التأثُّر العميق لقطاع الأعمال بجائحة كوفيد-19.
حيث إنَّ دورة رأس المال لم تعدْ تَسِيرُ بالسرعة التي كانت عليها قبل الجائحة، وهذه عواملٌ عالميةٌ مُؤثِّرةٌ في بنية الاقتصاد الدولي بأكمَلِهِ.
يعني هذا الأمر، أنَّ تحرُّك المملكة نحو الاستدامة الاقتصادية وعدم الاعتماد على الموارد النفطية، هو المُنطَلَقُ الذي يَحتَاجُ إلى تركيزٍ واسعٍ حتى يَتَخَلَّص الاقتصاد من أعباء الجائحة العالمية.
كلُّ هذا بالنظر إلى ظهور المُتَحَوِّر “أوميكرون” مع دخول 2022، والذي شكَّل مَوجَةً عالميةً جديدةً للجائحة، أثَّرت سلباً -دون شكٍّ- في الطلب على النفط، إلى جانب خفض الإنتاج الموازي لهذه الأحداث مع بداية عام 2022 أيضاً (صـ10).
وهكذا، يُمكن معالجة النقاط السلبية عبر إجراءاتٍ تحفيزيةٍ للاقتصاد والاستثمار؛ بما يُوازِي الحاجة إلى دعم الاستدامة الاقتصادية، وتخطِّي أزمة الجائحة شيئاً فشيئاً دون أن تُؤثِّر في الخطط الاستراتيجية للمملكة.
بناءً عليه، فإنَّ النظر إلى المُنحَنَى البياني للبيانات في التقارير المالية، يجب أن يكون بالتركيز على المعلومة العميقة التي تَكمُنُ وراء المعلومة الأولية المُستَنْتَجَة من معالجة البيانات.
بهذه الطريقة يُصبِحُ تَسلِيطُ النظر على المشكلة أكثر تركيزاً، وإيجادُ حلٍّ لها أكثر دقةً وسهولةً في آنٍ معاً.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال