الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في البداية وكمدخل لهذا المقال هو الاتصال الهاتفي الذي تلقاه البارحة صاحب السمو الملكي الامير محمد بن سلمان ولي العهد من الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والذي بلاشك كان محوره الاساسي هو الازمة الروسية الاوكرانية وتأثيرها على أسواق الطاقة، حيث أكد سمو ولي العهد حرص المملكة على استقرار وتوازن أسواق البترول والتزام المملكة باتفاق (أوبك بلس). وهذ وفق ما بثته وكالة الانباء السعودية الرسمية (واس).
يأتي هذا الاتصال في وقت تتصاعد الأزمة الاوكرانية على كافة الصعد، العسكرية والسياسية والاقتصادية بل والاعلامية وهي منطلقنا اليوم في هذا المقال، حيث تناولت الكثير من الأدوات الاعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي تحليلات غريبة تُفيد بأن المملكة العربية السعودية هي الرابح الأكبر بعد ارتفاع أسعار النفط فوق حاجز الـ 100 دولار لأول مرة منذ سبع سنوات. ورغم ان ارتفاع اسعار النفط لا شك في صالح الدول المنتجة بشكل عام، اذ يساعدها على تعزيز مراكزها المالية وتقليل العجوزات في ميزانياتها وقد يخلق لها فائض ويعوض عن خسائرها بسبب تداعيات الجائحة الكبيرة على الطلب على النفط.
لكن هذه التحليلات تناست امرين هامين، الاول ان الارتفاعات الاخيرة ليست وليدة اليوم بل هي امر متوقع منذ فترة طويلة حيث اشارت كثير من بيوت الخبرة العالمية الى ان الاسعار ستصل الى المائة دولار في 2022، قد تكون الازمة الروسية الاوكرانية بكّرت بالامر. الامر الاخر معني باستراتيجية السوق حيث تحرص الدول المنتجة وفي مقدمتها المملكة على استقرار وتوازن أسواق النفط، فالاستقرار يولد الاستدامة وهي الاهم واعتقد ان الدول المنتجة تشعر باهمية ذلك مما ساعد اتفاق أوبك بلس على الصمود رغم المطبات والضغوط التي حاولت ان تؤثر عليه.
عموما نرجع الى التحليلات في الاعلام الغربي حول استفادة المملكة الكبرى من الازمة الحالية، جاءت هذه التحليلات بناء على ربط غريب بقرار المملكة ضخ انتاج قياسي في شهر أبريل عام 2020 وصل عند 12.3 مليون برميل يوميا وهو القرار الذي كان اقتصادي بإمتياز وبعيدا عن السياسة تلبية للتصريحات الروسية في تلك الفترة لـ “السوق الحر” للنفط، وحرية الانتاج حسب الرغبة، لكنها عدلت عن ذلك بعدها بعدة أيام حيث شعرت روسيا بقلق اكثر بشأن استدامة الأسعار لوجود نسبة كبيرة من النفط الروسي تُباع في السوق الفوري يتداولها تُجّار النفط وليس عن طريق بيع تعاقدي بعقود طويلة الأجل كما تفعل شركة ارامكو السعودية والتي هي اقل عرضة من غيرها في تحكم السوق الفوري وتداولات تجار النفط.
ماحصل آنذاك جعل البعض يشير الى الازمة الروسية الاوكرانية بأن مفاتيح روسيا في قطاع الطاقة عند المملكة، مستندين في ذلك على الدرس الذي تلقته روسيا قبل عامين، ولكن هؤلاء المحللين غاب عنهم ان ذلك الدرس كان اقتصادياً صرفا استفاد منه العالم أجمع لاحتواء اكبر صدمة للطلب على النفط في التاريخ بسبب الجائحة، ونتج عن ذلك الدرس أكبر اتفاق في التاريخ لخفض الإنتاج.
صحيح أن غالبية الاقتصادات الكبرى تبحث عن مصالحها ولكن المملكة دائما تتصدر المشهد لتوازن اسواق النفط واستقرار الاقتصاد العالمي لمصلحة جميع الاقتصادات، فكيف توصف المملكة بانها الرابح الأكبر في وقت لاتستطيع ان تنسى او حتى تتناسى أسواق النفط ولا الاقتصاد العالمي فضل المملكة العربية السعودية ليس فقط بقيادة منظومة “اوبك+” إلى بر الأمان ولكن أيضاً الخفض الطوعي لإنتاجها في النصف الأول من عام 2021 بالاضافة إلى تخفيضات إنتاج “اوبك+” التاريخية، والذي ساهم بتوازن السوق بشكل كبير وامتصاص الفائض في المعروض واحتواء أكبر صدمة للطلب على النفط واستقرار الاقتصاد العالمي.
تحمّلت المملكة خفض طوعي قدره مليون برميل يوميا لعدة أشهر لأجل توازن الاسواق واستقرار الاقتصاد العالمي وسلامة صغار المنتجين، والتي هي مسألة لا يقدر عليها أحد سوى السعودية. لقد تحمّلت المملكة وحدها تبعات ذلك المالية والتشغيلية واللوجيستية بينما جميع اعضاء “اوبك+” والعالم حصدوا ثمار هذا الخفض الطوعي خصوصاً بعد انتعاش السوق وارتفاع الأسعار لمستويات تخطت ما قبل الجائحة.
وهنا لابد من أخذ العديد من القراءات في الاعتبار:
*أولاً:
كثير من بيوت الاستشارات والبنوك العالمية توقعت صعود الأسعار فوق حاجز المائة دولار لان اساسيات السوق قوية، ولم تعد ورقة عودة انتاج النفط الإيراني مؤثرة على الأسعار لكي يلعب بها البيت الأبيض والذي قد يستميت للاطاحة بتحالف أوبك+ مستغلاً الأزمة الاوكرانية.
* ثانيا:
لاشك بأن التأثيرات الجيوسياسية لعبت دور كبير في ارتفاع اسعار النفط فوق حاجز المائة دولار للمرة الأولى من سبع سنوات، لكن هناك أيضا عوامل أخرى مهمة لا ينبغي تناسيها وهي:
– الانخفاض الحاد في استثمارات المنبع.
– التحول الغير مدروس للطاقة المتجددة عند كبار المستهلكين.
– تراجع المخزونات العالمية للنفط ومشتقاته.
– تسارع تعافي الطلب على النفط بعد انحصار تأثيرات الجائحة.
– نضوب الكثير من الحقول التقليدية وغير التقليدية للنفط.
– تعديل سعر الفائدة الأمريكي لم يعد يضغط هبوطياً على الأسعار.
– وبالتالي لم يعد ارتفاع سعر الدولار يضغط على الأسعار نزولاً.
* ثالثاً:
تم تسعير الازمة أوكرانيا إلى حد كبير في اسعار النفط قبل الاجتياح الروسي، ومن الأساس قد لا يكون الارتفاع فوق حاجز المائة دولار مستدام رغم توقع العديد من المحللين، حتى وإن كانت هناك زيادات مرجحة لكنها كانت في الاساس قبل بدء الحرب مع التصعيد السياسي.
* رابعاً:
كيف تكون المملكة الرابح الأكبر من الأزمة الأوكرانية وهي الاكثر تأثراً من تراجع الأسعار في ذروة الجائحة عام 2020 لأنها اكبر مُصدّر للنفط في العالم وأحد اكبر القدرات التكريرية للمصافي العالمية، وبالرغم من الانخفاض الحاد في الاسعار الا أنها لم تتوقف عن استثمارات ومشاريع المنبع واستمرت مما اهلها لان تكون دائما الأعلى موثوقية في الإمدادات حتى في اوقات الأزمات.
أسعار النفط بالاساس كانت في طريقها إلى الصعود فوق حاجز ال 100 دولار، بصرف النظر عن ما حاصل من عوامل الجيوسياسية والتي قد تكون مؤقتة في التأثير ولكنها فاقمت في ارتفاع الأسعار بنحو خمسة عشر دولار من مستويات التسعين دولار من مطلع شهر فبراير ثم تراجعت الأسعار بعد أن تلاشت مخاوف تأثير العقوبات الاقتصادية ضد روسيا في إعاقة السلاسل العالمية لإمدادات النفط، حيث لايستطيع عملاء روسيا من النفط و الغاز الاستغناء عن امداداتها.
هبوط اسعار النفط تحت حاجز المائة دولار يعكس محدودية تأثير الازمة الاوكرانية على الاسعار لان اساسيات السوق بالأصل قوية، وعدم تأثيرها على امدادات النفط الروسية، حيث بات من الواضح تحييد نظام الطاقة العالمي من الأزمة الروسية الاوكرانية وعدم إمكانية اختراق نظام الطاقة العالمي، ولايوجد هناك “الرابح الأكبر” من أي أزمة سياسية سواء كان من كبار منتجي النفط أو الغاز.
اخيرا، مع كل هذه الجدلية، ومع محدودية تأثير العقوبات الاقتصادية على روسيا على إمدادات النفط والغاز، هل ستحاول الولايات المتحدة الأمريكية استغلال الأزمة الاوكرانية لتفكيك تحالف أوبك بلس؟.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال