الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
ازداد اهتمام واضعي السياسات التنموية في الدول بحجم المدن بعد أن وصلت بعض المدن في العالم إلى أحجام كبيرة وبدى أن هذا الإهتمام يرتبط بنظرية اقتصاديات الحجم في الإنتاج على اعتبار أن المدينة تمثل وحدة إنتاج إقتصادية، وبالتالي فإن زيادة حجم المدينة سوف يؤدي إلى كفاية النشاط الاقتصادي للمدينة. وبينما تمثل المدينة محتوى الإقتصاد المحلي فإن مجموعة المدن داخل الدولة تمثل الاقتصادات الإقليمية التي هي وعاء الاقتصاد الوطني. بيد أن أراء الاقتصاديين اختلفت في نظرتهم إلى حجم المدينة سكانياً وعلاقتها بالكفاية الاقتصادية. ويرى أصحاب الرأي الأول بأن هذه العلاقة طردية مهما بلغ حجم المدينة، كما يعتبرون أن الحجم السكاني الأكبر للمدينة هو الأفضل للأنشطة الاقتصادية، في حين يرى أصحاب الرأي الثاني بأن هذه العلاقة طردية ولكن إلى مستوى معين، و من بعدها تصبح هذه العلاقة عكسية. و يرُجعون أصحاب هذا الرأي بأن العلاقة العكسية تأتي بعد حجم معين نتيجة زيادة الازدحام في المدينة، والتلوث البيئي، والعشوائيات ، و تدهور البنية التحتية الأساسية إلى جانب الضغط على البنية الاجتماعية وارتفاع معدلات الجريمة. ولذا من وجهة نظر أصحاب هذا الرأي فإن المدينة ذات الحجم الوسط هي الأمثل للأنشطة الاقتصادية. أما أصحاب الرأي الثالث فإنهم يعتقدون بأن المدن الصغيرة في الحجم هي الأفضل في تحقيق النشاط الاقتصادي بسبب قلة التكاليف في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات إلى جانب توفر وسائل النقل المتطورة.
وفي المملكة العربية السعودية، جاء منهج تنمية المدن بما يحفز التنمية الاقتصادية على أساس الرأي الأول من خلال تركيزها في ثلاث مدن رئيسية، وهي الرياض، جدة، والدمام. وأما الرأي الثالث الذي يعتبر بأن المدن الصغيرة هي الأمثل للكفاية الاقتصادية فلا يتفق مع وضع المدن الصغيرة في المملكة، حيث تعاني معظم هذه المدن الصغيرة من عدم وجود الحجم الأدنى من السكان اللازم لتطورها وجعلها بيئة جاذبة سواء إقتصادياً أو إجتماعياً وذلك لمحدودية توفر مقومات جدوى المشاريع الإستثمارية و أيضاً في قصور الخدمات الاجتماعية المهمة للسكان، مما يحدو بالسكان إلى الهجرة للمدن الكبيرة أو المتوسطة بحثاً عن فرص العمل والتعليم. لكن أيضا في المقابل، فإن المدن الكبيرة، الرياض، جدة، والدمام أصبحت تعاني من الضغط الشديد على البنية التحتية الأساسية والبنية الاجتماعية نتيجة استمرار الهجرة لها، مع إحتمالات أن يبلغ الحجم السكاني لهذه المدن ما يفوق قدرة استيعابها و تحمل البينة التحتية فيها، وهذه الحالة تأتي لتعزيز أصحاب الرأي الثاني بأن العلاقة ما بين الحجم السكاني والكفاية الاقتصادية تبقى طردية إلى مستوى معين ثم تصبح عكسية.
وإن العلاقة بين حجم المدينة سكانياً والكثافة الاقتصادية هي علاقة متبادلة فإذا كانت المدينة كبيرة شكلت بذلك عامل دعم و تحفيز للأنشطة الاقتصادية المختلفة لما تمتلكه من ممكنات تؤدي إلى فورات إقتصادية خارجية وداخلية، وعلى إعتبار أن اقتصاد المدينة هو وعاء الاقتصاد المحلي فإن إقتصاد المدينة بالتالي يدفع بنمو الاقتصاد الوطني والعكس صحيح. ويعلل أصحاب هذا الرأي على أساس أن المكاسب الاقتصادية تأتي من التركز للنشاطات الإقتصادية حيث تتعظم الفوائد في الإنتاج من حيث القرب المكاني لمنتجي السلع و مقدمي الخدمات في إقتصاد مترابط، يما يسهم في تخفيض تكاليف النقل لمدخلات الإنتاج من شركة إلى أخرى، وبالتالي خفض قيمة المنتج، مع وجود سوق كبير من المستهلكين بالمدينة. واستنادا على هذه الفرضية شهدت حركة السكان الحضري نمواً سريعاً في المملكة ليرتفع من 2.8 مليون نسمة في عام 1970 إلى 34 مليون نسمة في 2020 مدفوعاً بسياسة التنمية الاقتصادية نحو تنويع الاقتصاد من خلال تطوير الأنشطة الاقتصادية في مجالات الصناعة، والتجارة، والخدمات في تجمعات سكانية حضرية، لتبلغ مساهمة هذه القطاعات في الناتج المحلي الإجمالي نحو 12.2%، 8.9%، و 9.6% على التوالي.
لقد أدى هذا التحول الاقتصادي القطاعي الكبير نحو تنويع هيكل الإقتصاد إلى تغيراً جوهرياً في مستويات التركز السكاني. فبينما شهدت جميع المدن السعودية خلال الفترة من 1992 إلى 2017 نمواً في السكان، فإن معدلات النمو بين المدن قد تباينت بشكل كبير. و من حيث حصتها من الزيادة السكانية خلال هذه الفترة جاءت مدينة الرياض في المرتبة الأولى بنسبة 27.7%، تلتها منطقة مكة المكرمة بنسبة 25.07%، و من ثم حصلت المنطقة الشرقية على نسبة 15.01%، بينما جاءت حصص بقية المناطق مجتمعة من الزيادة السكانية بنحو 32.17%. وقد شكلت هذه المناطق الثلاث التي يتركز السكان فيها الرياض، وجدة، والدمام نحو 66% من إجمالي سكان المملكة، بينما انخفضت حصص بعض المدن سكانياً مثل الباحة وتبوك بنسبة 0.47% لكل منهما، وكذلك عسير بنسبة 0.96%. لقد إنعكس هذا التركز السكاني على مساهمة هذه الثلاث مدن في إجمالي الناتج المحلي الغير نفطي، حيث بلغت هذه المساهمة 29% لمدينة الرياض، تلتها المنطقة الشرقية بنسبة 24%، و من ثم جاءت منطقة مكة المكرمة بنسبة 20.8%، بينما شكلت مساهمة جميع بقية المدن المتوسطة والصغيرة الأخرى 26.2 %. ورغم أن هذه الإحصاءات تمثل عام 2012، إلا أنها صدرت عام 2019 في تقرير وزارة الشؤون البلدية والقروية بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية، وهي بذلك تعتبر آخر البيانات المتاحة للناتج المحلي الإجمالي الغير نفطي على مستوى مدن المملكة. وإنه من شبه المؤكد بأن مساهمة هذه الثلاث مدن الرئيسة في الناتج المحلي الإجمالي الغير نفطي خلال الفترة الماضية إن لم تزداد وهو الأرجح فإنها حتماً لم تنقص، (الرسم البياني رقم 1).
ومن أجل فحص علاقة إنتاجية المدينة بالكثافة الاقتصادية، فإنه استناداً على بيانات المؤشرات والإحصاءات في 16 مدينة سعودية تم جمعها وإعدادها من قبل وزارة الشؤون البلدية والقروية بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية و من خلال استخدام نموذج تحليل الإنحدار، تبين أن 60% من مؤشر إنتاجية المدينة يرتبط بالكثافة الاقتصادية، كما أن الزيادة بنسبة 1% في معامل الكثافة الاقتصادية يؤدي إلى رفع مؤشر إنتاجية المدينة بنسبة 0.5%، وهذه النتائج تؤكد مدى تلك العلاقة السببية بين الكثافة الاقتصادية الناتجة من التركز السكاني وزيادة الإنتاجية للمدينة وبالتالي النمو الاقتصادي. وبإضافة نسبة مشاركة القوى العاملة من إجمالي سكان المدينة في معادلة تحليل الإنحدار مع معامل الكثافة الاقتصادية أصبح 76% من متغير مؤشر إنتاجية المدينة يمكن شرحه من خلال هذين العاملين.
وقد احتلت الثلاث مدن الكبيرة، الرياض، جدة، الدمام المراكز المتقدمة في الإنتاجية الاقتصادية للمدينة، مستفيدة هذه المدن من تطور البنية التحتية فيها، وسيطرتها على رأس المال البشري، حيث بلغت عدد الوظائف في الرياض 3.6 مليون، تليها جدة بنحو 1.9 مليون، ثم الدمام بنحو 1.6 مليون وظيفة حسب تقرير المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية 2016، وقد مثلت حصة هذه الثلاث مدن 70% من إجمالي القوة العاملة في المملكة. كما حظيت هذه الثلاث مدن بغالبية التمويل الصناعي الحكومي، إذ بلغ حجم تمويل صندوق التنمية الصناعية في الرياض 94.4 مليار ريال، وفي جدة 77.4 مليار ريال، وفي الدمام 55.4 مليار ريال، بينما شكلت حصة بقية المدن نحو 33 مليار ريال. وقد أدت هذه الأولوية لهذه الثلاث مدن الرئيسية من نصيب التمويل الصناعي الحكومي إلى محدودية التمويل المتاح للمدن الأخرى، التي كان بالإمكان الاستفادة من ميزاتها التنافسية، حيث تفاقم هذا الوضع حالة التنمية الإقليمية الغير متوازنة، (الرسم البياني 2).
ولقد شكلت هذه الثلاث مدن المقرات لنحو 83% من إجمالي المؤسسات السعودية والأجنبية العاملة في المملكة، ولذا فأن نمو أحجام هذه المدن خلال العقود الماضية تعظم نتيجة هذا التكتل الاقتصادي من المؤسسات فيها، وأيضاً من مستوى البنية التحتية المتطورة و المشاريع التنموية والمؤسسات التعليمية التي حظيت بها. كما ساهمت هذه العوامل في تركز الصناعات الإنتاجية في هذه الثلاث مدن، والتي أدت إلى تحفيز إمتداد المعرفة و تعظيم مكاسب التكتل الإقتصادي في الأنشطة الاقتصادية المبتكرة بما يساهم في زيادة نمو الإقتصاد الوطني، حيث جاءت الرياض في المركز الأول بمقدار 2359 صناعة إنتاجية، تلتها جده بمقدار 1066، ثم الدمام بمقدار 907، بينما أتت المدن المتوسطة، المدينة المنورة والأحساء، في مستوى منخفض وبفارق كبير لتسجل 148 و 128 صناعة إنتاجية على التوالي، (الرسم البياني 3).
لقد إستمر تركز التنمية الاقتصادية في المملكة خلال العقود الماضية في هذه الثلاث المدن، حيث يرجع تصدر الرياض كونها العاصمة السياسية للبلاد، و أما جده فترجع أهميتها بأنها كانت ولا تزال بوابة الحرمين للحجاج والمعتمرين وأيضا بحكم موقعها الجغرافي على ساحل البحر الأحمر مع وجود أكبر موانىء المملكة فيها، وبالنسبة للدمام فقد جاء بروزها كونها أصبحت مركزاً لصناعة النفط والغاز. بيد أن الزيادة المفرطة في التركز السكاني له محاذيره، حيث أدى إلى ارتفاع معدلات الهجرة من المدن الصغيرة وحتى المتوسطة إلى المدن الكبيرة، والتي ولدت العديد من المشاكل العمرانية والبيئية، وبالذات انبعاثات الكربون، مع زيادة أعداد الأحياء العشوائية والعبء الكبير على المرافق نحو توفير احتياجات السكان من الماء والكهرباء، إلى جانب المشاكل الاجتماعية، و الاقتصادية كالفقر والبطالة. وفي حين أنه من الأهمية بمكان أن تستمر هذه المدن الثلاث في تأدية دورها نحو تنويع الاقتصاد وتحقيق نمو الاقتصادي الوطني، إلا أنه لا يجب أن يقتصر ذلك على التركز السكاني والجانب الاقتصادي دون أخذ الأبعاد الاجتماعية والعمرانية والتخطيطية على مستوى هذه المدن الكبيرة وأيضاً تأثير ذلك على المدن المتوسطة والصغيرة. وإن تبني مثل هذا التوجه من قبل المؤسسات والهيئات الحكومية والذي هو المأمول من رؤية 2030، سوف يساهم أولاً في حماية البيئة الطبيعية و بالأخص في المدن الكبيرة، و كذلك في إنعاش اقتصادات المدن المتوسطة و الصغيرة و تحقيق أهداف العدالة الاجتماعية ومعايير الاستدامة و التنمية الإقليمية المتوازنة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال