الملكية الفكرية و البلوكتشين

أولاً: مُبارك عليكم الشهر الكريم وجعلنا الله وإياكم من صوامه وقوامه , وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

إن الملكية الفكرية للمحتوى التقني تُعد مجالاً جديداً وذات أهمية كبيراً نظراً لكونها تعتبر نتاجاً للمجهودات الكبيرة للعقول البشرية وعلاماتهم التجارية و دراساتهم الاكاديمية ومواهبهم والتي تمثل قيمة معنوية ومادية كبيرة, وقد ظهر في بداية التسعينيات تسجيل مثل هذه الملكيات الفكرية الرقمية في سجلات تقنية بهدف إضفاء عليها الحماية القانونية الكاملة من الانتهاكات التقنية أو القيام باستنساخها وتمكين المختصين وذوي الشأن من تتبع هذه الملكية ومقاضاة منتهكيها.

ومن هذه الأنظمة الرقمية التي ظهرت في بداية التسعينيات نظام إدارة الحقوق DRM وهو نظام يحتوي على برامج وأجهزة تساهم في حماية المحتوى الرقمي وتحديده , وبدأ هذا النظام في فرض هيمنته على المحتوى الرقمي وذلك من خلال قيامه بوضع ضوابط والالتزامات للوصول إلى هذا المحتوى والانتفاع به ووضع بنوداً تحمي حقوق النشر والطبع, إلا أن هذا النظام ظهرت له عيوب عديدة منها تكلفته العالية وسهولة اختراقه وتعرضه للقرصنة وإجراء أعداد لا محدودة من النسخ للأعمال المحمية, مما جعلها لا تختلف عن الأنظمة التقليدية للحماية الفكرية.

وفي وقتنا الحاضر ظهرت لنا تقنية البلوكتشين التي قد استحدثت تطبيقات تساهم في تسجيل الملكيات الفكرية وحمايتها وتشفيرها وتسهيل عملية إدارة تلك البيانات وسمحت بربطها مع أنظمة إدارة الحقوق DRM, فنتج عن ذلك بيئة قانونية رقمية عالمية تحمي الابتكارات والمواهب البشرية والعلامات التجارية وغيرها من أنواع الملكيات الفكرية في المجال التقنية, وتساهم هذه التقنية بالتحكم في استخدامات حقوق الطبع والنشر وتسهل من إمكانية الوصول للأعمال المحفوظة مع إضفاء الحماية عليها من النسخ والتعديل وعدم قيامها بحفظ الأصل الرقمي للأعمال المحمية في مجال التقنية ومنع نسخ المادة المحمية وارتباطها بكود التشفير الذي يقوم عليه نظام البلوكتشين, وتقوم العلاقة بين تقنية البلوكتشين وصاحب المادة المحمية على أساس عقد ذكية يدعي البعض أنه عقد تقني ولكني أراه عقد يشمل في جوانبه بنوداً قانونية وأخرى تقنية وقد تطرقت للعقد الذكي في مقالي السابق بعنوان (قانونية العقود الذكية) , فعند قيام الشخص بشراء أي مادة مسجلة في أنظمة البلوكتشين على أنها ملكية فكرية فإن المتجر أو الشخص البائع لهذه المادة سيقوم من خلال تقنية البلوكتشين المرتبطة بأنظمة DRM بتسجيل تلك العملية فتتم على أثر ذلك بناء سجلات معلوماتية حيال عمليات الشراء الالكترونية للمادة المحمية ومعرفة الأشخاص الذين لديهم حق الوصول للمادة المحمية مع بقاء خاصية منع التعديل أو التغيير على المادة المحمية وعدم استحواذ الأشخاص المشترين للمادة العلمية بشكل مطلق عليها وإنما يكون لهم حق الوصول في مدة زمنية محددة أو مفتوحة وذلك من خلال ما يتضمنه العقد الذكي.

إن مزايا تقنية البلوكتشين لا يجعلها خالية من العيوب والثغرات ومنها القيود الكبيرة في المحتوى التقني للبلوكتشين ومسألة التخزين للبيانات تُعد من أكثر المشاكل التي تثور, وغيرها من المشاكل ولكني أرى بأن هذه العيوب والثغرات هي بوابة ستجعل لمن يبادر و يطرقها ويضع حلولاً لها, النصيب الأكبر عالمياً في التحكم التقني للبلوكتشين.

وأما الجوانب القانونية فنرى اهتماماً كبيراً من قبل الأنظمة التشريعية بسن قوانين منظمة للمجال الرقمي ومحتواه والبيانات المتواجدة به ومن ضمنها الملكية الفكرية الرقمية ظهر أثره في توصيات اللجنة المعنية بمعايير الويبو في الدورة السادسة المقامة في مدينة جنيف بتاريخ 15-19/10/2018م, ومنها ما تضمنه البند (الخامس) من جدول الأعمال بإنشاء مهمة لإعداد التوصيات بشأن سلسلة الكتل الآمنة (البلوكتشين) لاكتشاف مدى إمكانية استخدام البلوكتشين في عمليات توفير الحماية بموجب حقوق الملكية الفكرية ومعالجة المعلومات المتعلقة بعناصر الملكية الفكرية واستخدامها, وكذلك الاستفادة من الخبرات والتجارب التي قامت بها مكاتب الملكية الفكرية بالعالم فيما يتعلق بالبلوكتشين وتقييم نتائجها ووضع نموذج موحد لطريقة استخدام البلوكتشين في مجال الملكية الفكرية وأنشأت فرقة عمل تهتم بذلك.

ومع خضم ما نمر به من تطور وازدهار ورؤية طموح يجب علينا المبادرة كأفراد وشركات وجهات حكومية مهتمين بالملكية الفكرية وحمايتها ومنتسبين للقانون بالدخول لهذا المجال والقيام بتجاربنا والفشل بها وتكرار المبادرة لكون ذلك هو الطريق الصحيح للوصول للقمة والنجاح الكبير.
أخيراً: يقول مصطفى صادق الرافعي:
وما المرءُ إلا جدُّهُ واجتهادُهُ
وليس سوى هذين للمرء أعوانا
فمن كان مقداماً فقد فاز جدُهُ
وباء بكل الويل من ظل حيرانا