3666 144 055
[email protected]
لم يكن أمام العالم متسعا من الوقت لكي يستوعب كل ما جاء به ملف المناخ من متطلبات تغيير قسرية في مصادر الطاقة، حتى واجه جائحة وبائية عاصفة لتضيف ملفات اللقاحات وصناعته وتوزيعه والتضخم وتراكمية الديون على رأس قائمة أولوياته، وليُصدم فجأة بالصراع الأوروبي الداخلي في أوكرانيا الذي دفع بملف الغذاء للواجهة أيضا، وليزداد المستقبل ضبابية في عدة أمور من ضمنها موضوع سلاسل إمدادات السلع والمواد كأحد تحديات العالم القابلة بما لا تشتهي سفنه سواءً بالرضا أو بالارغام.
تكاملية سلاسل الإمدادات العالمية التي صنعت من العالم قرية صغيرة تظهر وكأنها فكرة معرّضة للتبخر بسبب ما يعيشه العالم اليوم من توترات متتالية ذات انعكاسات تراكمية ثقيلة، كان آخرها ما يحصل في منطقة تمتلك أغلب احتياجات العالم من القمح والحبوب والزيوت المستخدمة في التصنيع الغذائي والأسمدة النيتروجينية، وليضع العالم أمام حقيقة خطر اضطراب سلاسل التوريد للسلع الغذائية الأساسية فضلا عن انقطاعها، وهذا سيزيد الضغط خاصة على الدول التي جُل غذائها من خارجها للتفكير جديا في الإنتاج المحلي و تخزين المواد بسبب متطلبات تنميتها الاجتماعية والاقتصادية المستدامة ، مما يعني إعادة التوطين وإقامة تحالفات إقليمية للخروج من دائرة خطر يلوح في الأفق المنظور.
سلاسل إمدادات الغذاء ليست سوى مثال لسلاسل توريد في قطاعات وصناعات أخرى يمكن أن تتأثر أو تتعطل بسبب التوترات السياسية، خاصة التي تستورد الكثير من القطع أو المواد الداخلة في تصنيعها من مناطق أخرى مثل الصين وشرق آسيا، مما يعني أهمية توطين تصنيع هذه المواد في دول هذه المصانع، أو في دول قريبة إقليميا أو حليفة، كصناعة السيارات والمعدات وكذلك الأمر نفسه في الصناعات البتروكيميائية، وإمدادات مصادر الطاقة ما بين تقليدية ونظيفة وغيرها من قطاعات إنتاجية.
أيضا، سلاسل الإمدادات يمكن لها أن تتأذى بسبب العقوبات المالية، والحاصل ضد روسيا ويراه العالم كله يحتم ضرورة توسيع خيارات النظم المالية بجانب النظام المدعوم من الدولار الأمريكي أو اليورو الأوروبي، ومع ترقب نشوب نزاع علني أمريكي صيني في أي وقت، جعل الصين – على سبيل المثال – تعجل في إيجاد نظام مراسلات مالية للتبادل التجاري خاص بها، وقد جذب هذا الخيار الجديد دول هامة ليكون لها موقع قدم فيه مثل الهند وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا (مجموعة BRICS) من باب الوقاية من تأثيرات أي حرب اقتصادية مفاجئة.
كما أن منع وصول اقتصادات ناشئة – لأي سبب كان – إلى العديد من الخدمات عبر الإنترنت ومواجهتها لعقوبات تكنولوجية كالحاصل مع روسيا، سوف يعرض سلاسل التوريد المغذية لها لهزات عنيفة وربما تكون كارثية عليها، خاصة أن الآلة الرقمية مهيمن عليها بالكامل، وهذه مسألة مؤلمة جدا و تستوجب إيجاد بيئات أدوات رقمية مستقلة أو التواجد في تكتلات آمنة.
لا يُعرف على وجه الدقة ماذا سيكون في المستقبل، وإذا ما كانت أحادية القطبية في هذا العالم في طريقها للأفول بسبب التحولات الجذرية الحاصلة، إلا أن ما يتحتم على الكثير من دول الاقتصادات الناشئة هو إعادة رسم استراتيجياتها والتي من ضمنها توطين الإنتاج والتخزين وتقصير سلاسل الإمدادات التي تحتاجها، وتحجيم هيمنة الأدوات الرقمية التي لا سلطة لها عليها، لتأمين مجتمعاتها وصناعتها وتجارتها من خطر ارتباك أو انقطاع تدفق المواد والسلع والخدمات، لتكون بمنأى – قدر الإمكان – من مخاطر التعرض للضغوطات الجيواقتصادية والجيوسياسية مستقبلا.
© 2020 جميع حقوق النشر محفوظة لـ صحيفة مال
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734