الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يُعد النفط أبرز سلعة دولية فهو في المرتبة الأولى من حيث حجمه في التجارة الدولية، كما يدخل بصفته مادة خام في عملية إنتاج الآلاف من السلع الضرورية والكمالية بشكل مباشر وغير مباشر. تُثير هذه الاهمية الاستثنائية بين الفينة والأخرى النقاش عن السعر المناسب والمعقول ” Fair Price” للنفط مماثلة بسلع أخرى (وليس “السعر العادل Just Price ” الذي يتم تداوله أحياناً مع أنه مفهوم فلسفي عميق يستحق التأني في استخدامه).
لقد سبق وأن سعت منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك” الى ربط سعر النفط بثلاث معطيات اقتصادية وهي؛ تراجع معدل صرف الدولار في العقود السابقة، وزيادة أسعار السلع الصناعية المستوردة باستمرار، بالإضافة الى تعويض علاوة النضوب. الا ان تلك المساعي اخفقت لعدة أسباب أبرزها: صعوبة تطبيقها عملياً، مع عجز المنظمة منذ عقود عن استهداف أسعار معينة للنفط ناهيك عن تحديدها. كما أن مهمة المنظمة اقتصرت منذ تسعينيات القرن الماضي على مراقبة الأسواق وليس إدارتها، باستثناء الفترة الاخيرة التي شهدنا فيها تشكيل تحالف أوبك+، والذي اشتمل على دول مصدرة اخرى من خارجها.
وفي سياق مقارب، تجدد مؤخراً النقاش عن المستوى المتدني لسعر برميل النفط مماثلة بسعر برميل سلع ومنتجات استهلاكية أخرى لا تربطه بها شبه أو علاقة كسعر برميل عطر، أو مشروبات غازية، أو عصائر وسواها من المواد السائلة، المصنعة والكمالية. هذه المماثلات تذكرنا بما يعرف في علم الاقتصاد بمفارقة أو ” لغز القيمة Value Paradox “ والتي تطرق لها “أبو الاقتصاد” آدم سميث دون تقديم تفسير محدد لها.
يطرح ” لغز القيمة ” سؤالاً منطقياً عن أسباب تدني سعر سلعة ضرورية (مثل الماء) مقابل ارتفاع سعر سلعة أخرى (مثل الألماس) رغم كونها غير ضرورية؟ منشأ المفارقة يُعزى إلى سببين؛ أولهما قانون تناقص المنفعة الحدية. حيث يوجد اختلاف بين المنفعة الكلية للسلعة (أي مجمل الإشباع من جميع الكميات المستهلكة منها) والمنفعة الحدية للسلعة (أي منفعة آخر وحدة مستهلكة منها). فالمنفعة الكلية من الماء كبيرة من مجمل الكميات المستهلكة ولكن المنفعة الحدية للكوب الأخير منه تكون منخفضة، والعكس صحيح بالنسبة للألماس بسبب محدودية كميته التي يستخدمها الفرد. أما السبب الثاني فيعود الى وجود مفهومين مختلفين للقيمة، وهما “القيمة الاستعمالية” أي القيمة التي تمثلها السلعة للشخص عند استخدامها، و”القيمة التبادلية”؛ أي القيمة التي يمكن أن يحصل عليها الشخص عند بيعها في السوق. هذه القيمة التبادلية (أو السعر) تكون منخفضة للماء وذلك لتوفر كمياته بالنسبة للطلب عليه بينما سعر الألماس مرتفع بسبب ندرة كمياته بالنسبة للطلب عليه.
وبلغة اقتصادية يوضح الشكل البياني أن سعر سلعة الألماس (ل) يتحدد عند تقاطع منحنى العرض (ع ل) مع منحنى الطلب (ط ل) عليها، مما يعني أن سعرها (س ل) المرتفع يعكس محدودية الكمية المتوفرة منها في العالم في ظل مستوى طلب معين عليها. أما بالنسبة للماء (م) فيتحدد سعره عند تقاطع منحنى العرض (ع م) مع منحنى الطلب (ط م) وذلك عند كميات كبيرة نسبياً مما يعني أن المنفعة الحدية والأهمية النسبية للكوب الأخير تكون منخفضة للمستهلك. لذا، نجد أن السعر الذي يدفعه للماء (رغم أهميته) يكون منخفض مقارنة بالسعر الذي يدفعه الراغبون بشراء الألماس لارتفاع المنفعة الحدية منه بالنسبة لهم.
هذه المفارقة في القيمة تبرز أيضاً عند مماثلة سعر برميل النفط وأسعار سلع أخرى – باستخدام البراميل كوحدة قياس- مثل العطور بعلاماتها التجارية المختلفة، أو مشروبات مميزة مثل البيبسي كولا أو مشروب الكابتشينو أو حتى غسول للفم. هذه المماثلة تهمل عدة نقاط جوهرية؛ اولها ان المماثلة غير سليمة بين مادة خام مثل النفط، يشتق منها في مراحل لاحقة مكررات معروفة، في حين ان السلع الأخرى تُعد سلع نهائية تمر صناعتها بمراحل وسيطة عديدة وذات قيم مضافة مرتفعة. كما أن هذه السلع المصنعة بشكلها النهائي ليست متجانسة بل تمثل علامات تجارية فريدة، ولها قيمتها السوقية العالية التي تحددها رغبة المستهلكين لدفع السعر المناسب لها من وجهة نظرهم.
بالإضافة الى ذلك، فالنفط سلعة ناضبة مما يعني أن تحديد كمياته التوازنية مرتبطة بتكلفة الفرصة البديلة لإنتاج البرميل الآن والتخلي عن انتاجه مستقبلاً، ولذا ترا نظرية الموارد الناضبة أن مسار السعر عبر الزمن يجب أن يعكس هذه التكلفة وهذا بحد ذاته يجعل النفط مختلفاً عند المقايسة مع أسعار السلع المصنعة. فالسلع المصنعة ليست مثل المواد الخام، حيث يمكن انتاجها بشكل مستمر وفق شروط توازن السوق وبما يعكس تكاليف الإنتاج والشحن في المراحل المتعددة التي تمر بها السلعة، وأيضاَ تفضيلات المستهلكين واذواقهم.
خلاصة القول، بالاستنارة بالبعد العلمي للموضوع فلا شك في أن أسعار النفط تُعد منخفضة من عدة جوانب وخصوصاً من وجهة نظر المنتجين الذين يحق لهم المطالبة بأسعار مجزية. ولكن مماثلة سعر برميل النفط بسعر برميل عطر من علامة تجارية معروفة تتجاهل عدة عوامل اقتصادية تلعب دوراً مهماً في تحديد أسعار السلع، ويهمل الفروقات الجوهرية التي تحكم ألية تحديد الأسعار في أسواق السلع المختلفة. لذلك، من الأنسب ان لا يتم التركيز على مقايسة سعر برميل نفط بسعر برميل عطر، بل يكون التركيز على ضرورة أن يعكس سعر برميل النفط القوة الشرائية الحقيقية له، إلى جانب مراعاة عامل النضوب الذي يتصف به.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال