الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
مع تراجع أزمة كورونا وانفتاح الأسواق تدريجيًا، يلاحظ المتابع تسابقًا محمومًا بين منظمي الأسواق، للقيام بالعديد من الإصلاحات في البنية التحتية المؤسساتية، والقانونية، والمالية؛ لجذب الاستثمارات والمستثمرين محليًا وعلى المستوى الدولي. ولاشك أن هناك تغييرًا كبيرًا في عقلية وشهية المستثمر، فضلًا عن رواج خيار شراء العملات المشفرة. لهذا تجد حتى بعض الأسواق المتقدمة كالسوق البريطانية، رغم تاريخها العريق، تحاول المنافسة، ومحاولة اللحاق بجارتيها الألمانية والأمريكية؛ فنجد هيئة البورصة الأمريكية بدأت تأخذ منحىً متشددًا؛ فيما يخص الإفصاح للشركات المدرجة، وإعادة النظر في مستوى حوكمة الشركات، والمقترحات في إعادة التشدد في إدراج شركة الاستحواذ لأغراض خاصة، حالها حال الاكتتابات العامة IPOs. ولم يقتصر الأمر على الإصلاحات، بل نجد المقترحات فيما يتعلق بحوكمة ESG، والذي بدأت ذائقة المستثمر تميل نحو ذلك النوع من الاستثمارات، مع التشدد في ضبط إفصاحات الصناديق الاستثمارية، في وصفهم أنهم أصدقاء البيئة. وعلى المستوى الحوكمي، نجد إصلاحات قانونية مشابهة أيضًا في الشارع البريطاني، ذات نظرة مستقبلية متشددة، في فرض قواعد حوكمية للشركات الكبيرة المدرجة والغير المدرجة، وإعادة تقييم النظر في قواعد الإدراج في السوق البريطاني. ونجد هذه الإصلاحات المؤسساتية في أسواق الأخرى، كالسوق الأسترالي؛ في استعمال التقنيات الحديثة كالبلوكتشين، للتتبع، والحد من تسريب المعلومات الداخلية؛ وما له من أثر سلبي على المستثمرين في السوق. وكذا التوجه الألماني، والمتضمن مقترحات جديدة لتقنين مسؤوليات الشركات الجنائية المدرجة والتنفيذيين، وهو تاريخيًا ليس له أرضية خصبة في النظام القانوني الألماني. وحتى الأسواق الأسيوية كالسوق الصيني والسنغافوري.
ومن هنا يدفعنا الحديث عن السوق السعودي، ولا سيما الأخبار والتصريحات، وتراودنا هناك رغبة كبيرة وعارمة في الإدراج في السوق السعودي. بدايةً، ودون مجاملة، تطالعنا الهيئة السعودية بمقترحات وتعديلات قانونية لأنظمة السوق المالية ولوائحها، وهذه خطوات ممتازة من قبيل الهيئة. ولكن أعتقد بكل تواضع، أن السوق السعودي يحتاج إلى إعادة “غربلة” كما يقول المثل الشعبي، عبر إدخال تعديلات هيكلية للسوق الرئيسي “تداول”. وفي اعتقادي، أن المقترح الذي يحتاجه السوق السعودي، هو إنشاء فئة من سوق تداول الرئيسي، يعكس القيمة الحقيقية لمستوى المملكة الاقتصادية ورؤية ٢٠٣٠؛ لنقترح اسمها “المتميزة”، فقط يكون للشركات الرائدة في سوق تداول الرئيسي بمعايير صارمة، سواء للإدراج فيه، أو الاستمرار فيه، أو الخروج منه للشركات التي تفقد شروط معاييرها.
ومن هنا يتبادر السؤال، كيف سيكون الشكل لهذه المعايير؟ هذا التساؤل مهم، وهو لب التفرقة، والذي سيكون حافزًا لإعادة مفهوم النظر في مستوى حماية المستثمرين في السعودية، والذي يشهد في معظم الوقت عدم الوضوح؛ فضلًا عن صعوبة التفرقة بين الغث والسمين من الشركات المدرجة في سوق تداول. وهذا لا شك أمر أساسي وحيوي للمستثمر العادي، الذي يفتقر للخبرة المالية والدراية، ولا ننسى المستثمر الأجنبي الذي قد يرغب باستثمارات آمنة إلى حد ما. لاسيما أنه ثمة حاجة لمثل هذه الفئة، خاصة وأن الأخبار غير المبشرة كثيرة عن تقهقر أرباح الشركات بعد الإدراج؛ خاصة بعد خروج المساهمين، وانقضاء فترة الحظر أو العقود بين ذوي المصالح، والتي تفقد المستثمر البسيط الثقة حتى في السوق. ولكن معاملة كل الشركات المدرجة معاملة واحدة أمر غير معقول، فهناك اختلاف كبير فيما بينها. ولكن بالنسبة للمستثمر العادي، قد لا يتضح له أي فروقات بين الشركات المدرجة في سوق تداول، غير ما يتردد في المجالس من أقوال، نحو: فقط استثمر في “تلك واترك هذه”. ومن هنا يأتي الخلط والتساوي بين الشركات المدرجة.
إن إنشاء فئة ” المتميزة”، يعتبر عاملًا محفزًا للشركات المدرجة، وحتى القادمة للسوق والتنفيذيين؛ حتى يفهم التنفيذيون أن الإدراج ليس نهاية المشوار، بل على العكس يفترض به أن يكون البداية. فالهيكلية الواحدة للسوق الرئيسي أحيانًا، تعطي نتيجة سلبية، وميزة لمجالس إدارة الشركات المتقاعسة. ولكن بوجود فئة مميزة، يفترض أن تمثل لكل شركة تطمح للتميز، شيئًا يعكس القيمة الحقيقية، والجهد الحقيقي، الذي تسعى له هيئة سوق المال من القيام بدورها. وبالعودة على سؤال القارئ، عن المعايير التي ينبغي النظر فيها لدخول شركة إلى هذه الفئة ” التميز”؛ لا شك أن مثل هذا العمل المؤسساتي، يتطلب جهدًا شاقًا وكبيرًا ، ودراسة كافية ووافية لاختيار المعايير القانونية والمالية. ولكن بشكل عام، أنه في مجموع هذه المعايير، ينبغي النظر إلى حجم المساهمين بالشركة، والسيولة liquidity، وعدد الأسهم الحرة، والأهم من ذلك كله؛ قواعد حوكمة الشركة، وغيرها من المعايير المهمة التي قد تراها الهيئة ضرورية.
وفي اعتقادي، أنه يمكن الاستفادة من التجربة اليابانية على سبيل المقارنة؛ حيث كان هناك إعادة تقسيم للسوق الياباني بطريقة تستهدف المستثمرين، وإعادة الثقة في السوق الياباني، والذي بدأ العمل به مؤخرًا في إعادة هيكلية الشركات المدرجة في السوق الياباني، وتقسيم الشركات إلى ثلاث فئات. وهناك دراسة مستفيضة من القائمين على ذلك المشروع، والأسباب الداعية لذلك، والمعايير التي على أساسها تم تقسيم السوق الياباني. وما يهمنا حقيقة ما يسمى ” “Prime، حيث قامت السوق اليابانية، بوضع قواعد قانونية ومعايير متشددة، ميزت الشركات اليابانية عن غيرها من الشركات الأخرى. وكما ذكر أحد المسؤولين اليابانيين “إن هذه الهيكلية كانت خطوة ضرورية للسوق الياباني، فهناك الاختلافات الكبيرة بين الشركات المدرجة الجيدة والسيئة على أرض الواقع؛ لهذا خلق فئات ستساعد المستثمر الياباني والأجنبي، والذي من خلاله سينهض بالسوق الياباني، والاقتصاد الياباني في مجموعه.”
وختامًا، نذكر بضرورة عمل دراسة مؤسساتية، قانونية، اقتصادية، لمثل هذه التجارب المهمة جدًا، وإمكانية الاستفادة منها؛ حيث لا شك السوق السعودي يحتاج إلى مثل هذه الغربلة، لاسيما أن السوق السعودي هو من المرتكزات الرئيسية التي تتكئ عليها رؤية ٢٠٣٠ لتحقيق الرؤية الاقتصادية، بتقسيم السوق السعودي، وتقديم سوق من فئة خاصة فقط للشركات التي تحقق المعايير، التي تراها هيئة سوق المال السعودي كفيلة ومؤهلة لإدراج الشركة في سوق ” التميز”، وتكون محفزًا للشركات المدرجة والتنفيذيين في تلك الشركات، لإعادة النظر في مفهوم حماية المساهمين؛ ليس عبر القانون بحد ذاته، بل عبر هيكلية مؤسساتية؛ حتى تدرك مجالس إدارات تلك الشركات، أن الإدراج ليس البداية وليس النهاية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال