الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
اخترقت أسعار الفائدة السايبور حاجزًا تاريخيًّا ظل منيعًا لسنوات طوال، وفجأة أصبح حتى المتابع البسيط للمشهد الاقتصادي يعلم عن سكنات وحركات أسعار الفائدة، ويعمل جاهدًا لتقصي معلومة أو تفسير حدث طارئ بخصوصها. هذه الارتفاعات المضطردة لها خصوصية مختلفة عن جميع دورات أسعار الفائدة الصاعدة التي حدثت بالسابق.
فهل وصول أسعار السايبور إلى ما فوق 3.00% (والذي كان دون مستويات 1.00% قبل عدة أشهر بسيطة) يعتبر منطقيًّا، خصوصًا إذا ما قارنّاه بحركة نظيره اللايبور الأمريكي؟
هنا جوانب أساسية أفنّد بها جذور الأسباب، وأطرح بعض وجهات النظر هنا وهناك.
الجانب الأول: ارتفاعات أسعار الفائدة الأمريكية
هذا سبب بديهي، ويحكي فقط جزءًا من قصتنا. بدأ الفيدرالي هذه السنة مسيرة رفع أسعار الفائدة، وقرر زيادة قدرها ربع بالمائة في شهر مارس، وتبعتها زيادة أخرى أوائل شهر مايو بمقدار نصف بالمائة. وحسب توقعات الفيدرالي فإن الزيادات القادمة ستستمر بنفس الوتيرة السابقة (نصف بالمائة) لعدة اجتماعات حتى يتجاوز السعر في أواخر هذا العام 2.50% (حاليًا عند 1.00%)، وبعدها يتم إعادة النظر بمستويات التضخم وتجاوبها مع ارتفاعات أسعار الفائدة.
مازال الفيدرالي يُبدي قلقه من أرقام التضخم التي خرجت عن السيطرة، وسجلت ارتفاعًا قدره 8.5% في شهر مارس الماضي. من حسن الحظ أن آخر قراءة لشهر أبريل الماضي أشارت إلى 8.3%، وهي رغم ارتفاعها إلا أنها كسرت وتيرة ما سبقها. الفيدرالي مصمّم أن القلق من التضخم يجب أن تروّضه ارتفاعات الفائدة حتى يعاود إلى مستوياته المرغوبة خلال السنتين القادمتين.
بالتالي وجدنا أن البنك المركزي السعودي قام كذلك برفع أسعار الفائدة بنفس المقدار، ربع بالمائة، ومن ثم نصف بالمائة. هذا الأمر يضغط على السايبور ليرتفع بالطبع، ولكن ليس بالضرورة بنفس الحجم؛ لأن السايبور تحكمه عوامل معقدة أخرى وطارئة سنتناولها بالجوانب الأخرى.
الجانب الثاني: آلية احتساب السايبور
بدءًا من أول يناير 2022 تغيرت تمامًا الآلية المتبعة مِن قِبَل البنوك لاحتساب ونشر أسعار السايبور بشكل يومي. الآلية الجديدة ترتبط بشكل أكبر بالعمليات الفعلية المتعلقة بإدارة الأصول والخصوم التي ينفذها البنك. على سبيل المثال: السايبور الآن يُبنَى على عمليات حقيقية مؤهلة مثل سعر الوديعة البنكية التي يأخذها البنك، وبالتالي يُعبّر هذا السعر عن الأرضية التي يتم بناء سعر السايبور عليها.
هنا ندرك أن السعر قد يكون عرضة للتذبذبات أكثر بكثير من السابق، ويكشف الستار عن أي ضيق أو توتر بالسيولة المحلية بشكل أسرع. أرى أن الآلية الجديدة أكثر شفافية وواقعية وتُدار بحوكمة أفضل عما كان في السابق. قبل 2022، كان المكوّن الرئيسي لأسعار السايبور غير محكوم بعمليات فعلية مؤهلة بشكل أساسي، ويعطي البنوك مرونة أكثر من اللازم. بالتالي فإن الآلية الآن أكثر عدلاً، وتمر في مسار واضح للوصول لسعر تكلفة الأموال الفعلية.
هل هذا يعني أن الآلية الجديدة كشفت المستور بشكل أسرع حول الشح الذي طرأ بالسيولة المحلية؟ هذا صحيح؛ فالبنوك أصبحت أكثر تنافسية للحصول على الودائع وبناء صمام أمان لامتصاص أيّ صدمات تطال إدارة الأصول والخصوم لديها. وهنا نستطيع أن نقارن جودة كل بنك في إدارة المركز المالي لديه، وتعاطيه للتحديات واستشرافه لأحداث كهذه.
الجانب الثالث: أرقام ومؤشرات السيولة لدى البنوك المحلية
عند قراءة التقارير الشهرية والدورية للبنك المركزي السعودي؛ نجد أن معظم مؤشرات السيولة لا توحي، للوهلة الأولى، بأي اضطرابات. فمستوى عرض النقود مستقر، وينمو بثبات من الربع الأخير بعام 2021 إلى نهاية الربع الأول من 2022. وعند مراجعة نسبة القروض للودائع نجد أن مستوياتها صحية ولم ترتفع بشكل مفاجئ.
لكن الذي سحب البساط كسبب رئيسي هو مستويات السيولة بالنظام البنكي ممثلاً بالعمليات اليومية لاتفاقيات إعادة الشراء المعاكس “الريبو العكسي”، والذي يتمثل بنسبة الفائدة التي يدفعها البنك المركزي للبنوك مقابل إيداعاتها له من السيولة في نهاية كل يوم بشكل يومي. هذه السيولة التي لا نستغرب عندما كانت تصل إلى ما مجموعه 100 مليار ريال في أوقات قريبة؛ أصبحت في آخر قراءة (حسب البيانات المعلنة من البنك المركزي للمتوسط اليومي خلال الأسبوع، كما في تاريخ 21 مايو 2022) عند معدل أقل من 6 مليارات ريال. فبعد أن كان المعدل عند 60 مليار في بداية هذه السنة، أصبحت الأرقام تتذبذب للأسفل حتى وصلت أقل نقطة في آخر قراءة.
عندما ترى البنوك هذه الأرقام فإنها تعالج توجّسها من سيولة خانقة قد تلوح بالأفق عن طريق التنافس الشرس للحصول على الودائع. ولا ننسى ما ذكرناه سابقًا (الجانب الثاني)، فإن هذا يضخ مباشرة في ارتفاعات السايبور (التي أصبحت تُبنَى على أرقام وعمليات كهذه)، وهذا ما نحن ندور في محيطه منذ بداية هذه السنة.
هل ستستمر الارتفاعات؟ وكيف سيتعامل البنك المركزي مع هذه المرحلة؟
قد يكون أول ما يتبادر إلى الذهن عند قراءة الجوانب أعلاه أن الحل سيكون في متناول البنك المركزي عن طريق ضخ سيولة بالسوق وكبح لجام ارتفاعات السايبور القوية، وخصوصًا أن أسعار البترول في مستويات عالية وبمدخولات قوية. هذا التفكير سليم، بل من المطمئن أن ارتفاعات أسعار الفائدة تزامنت مع ارتفاع سعر البترول، والذي يخلق عاملاً كأحد الحلول.
لكن ثمة أمر مهم هنا. يجب كذلك أن نعلم أن صعود السايبور كان نتيجة للتوسع الكبير وغير المسبوق بعمليات الإقراض وعلى نطاق عريض. قراءة سريعة لما حدث في عامي 2020 و2021 تجعلك تستنتج أن وضع السيولة الحالي الضيّق نسبيًّا (ممثلاً بمستويات السيولة لدى البنوك والتي تَقدّم شرحها) لم يكن إلا مسألة وقت.
وعند الاطلاع على تصريحات الحكومة الرسمية الأخيرة بخصوص التعامل بالسيولة الداخلة و المتحصلة من البترول المرتفع، فسيكون التريث سيد الموقف، ولن يتم الزج بهذه الوفورات بشكل سريع، بل سيتم التركيز على ترميم وإعادة بناء ما تم استهلاكه بالسنوات الماضية من مخزون الاحتياطي النقدي، وبعدها تسريع خطط الرؤية ودعم الأولويات. هذا من شأنه تقليل أثر الصدمات الاقتصادية بالمستقبل وشق الطريق بثبات نحو تنويع الاقتصاد.
لكن أيضًا دعونا مرة أخرى نفكر في أسعار السايبور، وكيف ستتحرك من هنا. تاريخيًّا، السايبور (المرتبط بثلاثة أشهر) حافظ على معدل هامش فوق اللايبور بحوالي 0.6%. هذه النسبة تزيد وتنقص حسب المعطيات الاقتصادية، وإذا خرجت عن النطاق فإنها سرعان ما تعاود أدراجها لمنطقتها الدافئة.
هذا الهامش حاليًا قارب 1.50% بالنسبة لهذا الأجل (ضعف ونصف فوق المعدل التاريخي لآخر ست سنوات). هذا الأمر مقرون بانخفاض معدلات “الريبو العكسي”. إذا استمرت هذه المعطيات فقد يؤثر هذا على معدلات التوسع بالإقراض، وستنقص عما كانت عليه من ارتفاعات متزايدة بالسنتين الأخيرتين. مع الوقت سيؤدي هذا إلى خلق مستويات سيولة “مسؤولة”، ولكن يا ترى كم ستستغرق هذه العملية دون تدخل المركزي وخلق التوازن المنشود؟
لا يوجد شك أن المركزي يتابع جميع المؤشرات، ويولي الاستقرار النقدي أولوية قصوى. التذبذب والصعود الحاصل بأسعار السايبور أراه مرحلة مؤقتة وموجة ستهدأ، وهذه الحالة بالمناسبة لم تستشرِ تأثيراتها لتطال أسعار أسواق المقايضة متوسطة وطويلة الأجل (السواب)، والتي تحافظ على مستويات صحية عند مقارنتها بنظيراتها الدولارية. وكذلك نجد أن أسعار الصرف للدولار والريال مستقرة، سواء للأسعار الفورية أو الآجلة.
تأثير الارتفاعات على الشركات بالمملكة
بحكم أن الارتفاعات القوية طالت أسعار السايبور بالأسابيع القليلة الماضية؛ فإن الأثر الحقيقي سيُرى بالأرباع والفترات القادمة. أصبح من الضروري للمحللين والمستثمرين أن يتمعنوا جيدًا بالقوائم المالية للشركات، ويدرسوا مدى تعرّضها لأسعار الفائدة المتغيرة (العائمة)، ويبحثوا عما إن كانت هناك عمليات تحوّط “حصيفة” لتلك العمليات.
فكلما زادت الرافعة المالية ومعدل القروض للشركات، أصبحت تحت رحمة أسعار السايبور أكثر وتأثرت ربحيتها كمحصلة نهائية (مع إبقاء العوامل الأخرى ثابتة). ويجب استحضار أن التوقيت سيكون دائمًا مناسبًا لإعادة النظر، وبدء رحلة إدارة المخاطر المالية بشكل سليم.
إدارة المخاطر المالية وأسعار الفائدة
لا شك أن إدارة المخاطر المالية تركز على زيادة مستوى اليقين حول العوامل التي من الممكن أن تهدّد الاستقرار المالي للمنشأة، بل وتعظّم من فرص الاستفادة من الفرص الطارئة. بالتالي وجود سياسة تحوط شاملة (وقابلة للتطبيق) أصبح ضرورة ملحة في وسط هذه المتغيرات السوقية التي لا تتوقف.
رأينا بعض الشركات اتبعت وبنجاح تطبيق سياسة التحوط من مخاطر أسعار الفائدة قبل الارتفاعات الأخيرة. ولم يُثنها وقتها أن التوقعات تشير إلى عدم حركة بالأفق. لكنَّ هذه الشركات تبني القرار على حماية المستهدفات المحددة سلفًا، بغض النظر عن السوق (كأن تحافظ على مستوى ربحية معين).
إن سياسة التحوط على مستوى المؤسسة تزرع ثقافة إدارة مخاطر وحوكمة سليمة. فهي تساعد المنظمة بشكل كبير على توقّع وتحديد وقياس وإدارة والإبلاغ عن التعرض لمخاطر السوق ذات الصلة بشكل سريع. تعزز سياسة التحوط أيضًا من توزيع الأدوار والمسؤوليات بشكل واضح، وتحدد إيقاعًا محددًا لأصحاب المصلحة لتسهيل إجراءات عملية صنع القرار واتخاذه بعناية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال