الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
قبل أيام حذر مؤتمر “دافوس” دول العالم عامةً ومجموعة العشرين خاصةً بأن العولمة تواجه أسوأ مراحلها منذ الحرب العالمية الثانية نتيجة انتشار الأوبئة وتفاقم ندرة الغذاء وتراجع سلاسل الإمداد وتدهور المناخ وتضاعف الديون السيادية، ما أدى إلى استشراء التضخم والتهديد بالركود الاقتصادي وارتفاع وتيرة الحروب التجارية والدموية. جاء هذا التحذير على أعتاب الفوضى الخلاّقة التي ابتدعتها الدول الرأسمالية وعاثت في الأرض فساداً خلال العقود الثلاثة الماضية مستغلةً قدرتها على تطويع ثغرات النظام العالمي الجديد لصالحها.
نتيجة لذلك انقسمت دول القرية الكونية إلى قسمين: دول استسلمت طوعاً لهذه الفوضى فكان من السهل تطويع أنظمتها السياسية واستغلال ثرواتها الطبيعية وزيادة ديونها السيادية لتصبح عاجزة عن تطوير ذاتها ومعالجة قضاياها والتصدي لتحدياتها، ودول انتفضت لجمع شملها واستغلال قدراتها وتكوين شراكاتها الاستراتيجية لتغدو قادرةً على تعزيز مكانتها والدفاع عن حقوقها وتنمية مصادر دخلها.
في العالم الثالث نجحت الفوضى الخلاقة في تحويل ثلث الوطن العربي إلى حلبة صراع مستميت على السلطة والمال فاختلطت بين شعوبه موازين الحق بالباطل، وتمادت رموزه في احتلال منابر التكفير والترهيب والتخوين. أما في العالم الأول فلقد أبدعت الدول الرأسمالية في مواجهة الدول الاشتراكية والسعي المتواصل لحرمانها من اعتلاء مكانة الصدارة في الاقتصاد العالمي، لمنع التنين الصيني والدب الروسي من إزاحة المارد الأمريكي والعملاق الأوروبي عن عرش العولمة.
لذا لجأت الدول الرأسمالية قبل 4 سنوات إلى انتهاج السياسات الحمائية المشوهة للتجارة ضد الصين، التي أخذت مؤخراً منحنى خطيراً بعد أن فرضت أمريكا رسوماً جمركية حمائية على وارداتها من حديد الصلب الصيني، لتصل إلى 522%، وتشمل 266% رسوم مكافحة الإغراق و256% رسوم تعويض الدعم. وعلماً بأن فرض هذه الرسوم بصورة مزدوجة في وقت واحد على المنتجات المستوردة تتعارض مع أبسط قواعد منظمة التجارة العالمية، إلا أن أمريكا استخدمتها عنوةً لكبح جماح ارتفاع الصادرات الصينية في الأسواق العالمية بمعدل تراكمي وصل الى 583% سنوياً، ما أدى لاحتلال الصين المرتبة الأولى في الصادرات العالمية.
وللتصدي لهذه السياسات، استجمعت الصين وروسيا قواها مع البرازيل والهند وجنوب أفريقيا، لتؤسس مجموعة من أسرع الدول في النمو الاقتصادي، وأطلقت عليها اسم مجموعة “بريكس”، التي تشكل مختصراً للحروف الأولى من أسماء هذه الدول. وأعلنت هذه المجموعة في أول قمة بين قادتها عن تأسيس نظاماً عالمياً جديداً ومواصلة التنسيق بينها لمواجهة التحديات السياسات الأمريكية، بما فيها التعاون في القطاع المالي والتمويلي وإيجاد الحلول الناجعة للأمن الغذائي.
وبينما تحتضن مجموعة “بريكس” خمسةً من الدول النامية، التي تحتوي على 21% من الشعوب الفقيرة في العالم، ولا تزيد مساحتها عن 26% من مساحة القرية الكونية، إلا أن هذه المجموعة عقدت العزم على مواجهة الفوضى الخلاقة، التي أطلقتها الدول الرأسمالية المتقدمة، بتسريع إصلاحات هياكلها الإدارية وتطويع أزماتها المالية وتذليل عقباتها التنموية، إلى جانب تدويل عملاتها المحلية. كما أسست مجموعة “بريكس” قاعدة تعاون استثمارية وتجارية مشتركة، وكونت منظومة تعاون نقدية متعددة المستويات، لدفع احتساب التجارة البينية بالعملة المحلية، وتسهيل مبادلاتها الاستثمارية وتعاونها المشترك في كافة المجالات.
واليوم استطاعت مجموعة “بريكس” التحكم في 23% من الناتج الاقتصادي العالمي، والاستحواذ على 18% من إجمالي حجم التبادل التجاري الدولي، وامتلاك نحو 40% من مجموع احتياطيات العالم، لتنافس بحلول عام 2030 اقتصاديات أغنى دول العالم بما فيها أمريكا وأوروبا واليابان ودول الخليج العربية مجتمعةً. وهذا ما أثار الذعر في الدول الرأسمالية المتقدمة، خاصةً وأن تقارير صندوق النقد الدولي توقعت مؤخراً أن تتربع الصين في عام 2030 عرش أكبر اقتصاد عالمي بناتج محلي إجمالي يفوق 83 تريليون دولار، لتتفوق بذلك على أمريكا التي ستحتل المرتبة الثانية بناتج محلي إجمالي لا يزيد عن 34 تريليون دولار، وتراجع اليابان إلى المرتبة الرابعة بعد الهند التي ستحتل المرتبة الثالثة بناتج محلي إجمالي يفوق 26 تريليون دولار.
لذا عكفت الدول الرأسمالية على إحباط عزيمة مجموعة “بريكس” ودحر أهدافها وتوريط اقتصادياتها، فاستدرجت روسيا في الأشهر الأخيرة من هذا العام لشن حرب دموية استنزافية على أوكرانيا، وأثارت حفيظة الصين بعد قيام أمريكا بتوسيع رقعة تواجدها في المحيطين الهادئ والهندي لتهديد علاقة الصين بجزيرة تايوان. وهذا ما أدى إلى تدهور سلاسل الإمداد العالمية بمعدلات غير مسبوقة وصلت إلى 41% من طاقتها، وارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسب فاقت 32% في المتوسط، ما ساهم في زيادة معدلات التضخم في معظم دول المعمورة بنسب مرتفعة لأول مرة منذ 40 عاماً.
ومع ذلك تواصل مجموعة “بريكس” في مواجهة تحديات الفوضى الخلاقة دون كلل أو ملل للوصول إلى مصاف العالم الأول وتوجيه دفة العولمة لصالح القرية الكونية بأجملها.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال