الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يشهد المجتمع الإنساني تحولُّات اقتصاديَّة واجتماعيَّة هيكلية، تمارس فيها التقنيات الرقميَّة دورًا مؤثّرًا في تأسيس أنماط جديدة من علاقات الإنتاج تهيمن فيها “المنتجات الخوارزمية” على المفاصل الأساسية،ويتراجع إسهام عنصر العمل البشري ليحتل مراتب ثانوية.هذه التحولات السريعة قد يترتب عنها اضطراباتٍ اقتصاديَّةً واجتماعيَّةً بالغة التعقيد والخطورة ما لم تتخذ إجراءات استباقية تعالج مسبباتها.
ثمة دلائل قائمة على دراسات كمية،ومعطيات رقمية،ترجح احتمال نشوب صراع كوني غير مسبوق بين تشكيلين متضادين ومتباينين في التكوين والأهداف خلال العقدين المقبلين.يضم الأول الحريصين على التوازن بين مصالح الأفراد والتقدم التقني والاستخدام النافع للتقنيات الرقمية،والملتزمين في رفاهية الإنسان هدفا أساسياَ للنشاط الاقتصادي،والمدافعين عن سعادته وحقه في الحصول على عمل مجزي يؤمن له حياة كريمة.في حين يجمع التشكيل الثاني دعاة التوسع الى استخدام تطبيقات “التقنيات الرقمية” في صياغة أُطْرالانشطة الحياتية المعاصرة والمستقبلية،لتعزيز كفاءة الأداء، وخفض تكاليف الإنتاج، وتعظيم الارباح،بصرف النظر عن تداعياتها القاسية على عنصر العمل البشري،وعلى استقرار الاقتصاد وأمن المجتمع.
تحليل مكامن قوة الطرفين ونطاق تأثيرهم،ترجح حسم الصراع لصالح الطرف الثاني لعاملين:
الأول،اندفاع المنشآت الخاصَّة المتصاعد إلى توظيف التقنيات الخوارزميَّة في عمليَّاتها الإنتاجيَة،ونشاطاتها الخدميَّة سيؤدي الى تراجع طلبها على عنصر العمل.فضلاَ عن قوة تأثيرقادة “قطاع الاعمال” على المشرعين وأصحاب القرا،وقدرتهم على تعطيل اصدار أجراءات تنظيمية توازن بين استخدام عنصري الانتاج؛ التقنية والعمل.
أما العامل الثاني،فيرجع الى غياب مبادرات المؤسَّسات الرسميَّة ،وعزوفها عن دراسة التبعات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة “للذكاء المصنَّع”على توازن سوق العمل،وصياغة لوائح تنظيميَّة تحمي مصالح أفراد المجتمع،وتضمن توازن قطاعاته.
لا بد من التأكيد على أن ضرورات الاستقرارالاقتصادي والاجتماعي تقتضي طرح المؤسَّسات الرسميَّة استراتيجية تقنية متوازنة،تخدم ضرورات برامج التنمية الوطنيَّة،والتطور التقني،وتقلِّل أضرا”التقنيات الرقميَّة” المحتملة على القوى العاملة،وعلى فرص الاجيال المقبلة،والبدء في إعداد شبكات أمان اجتماعيَّة فعَّالة كأحد خيارات معالجة تداعيات “الذكاء المصنَّع”.
التحذيرمن تبعات هيمنة التقنيات الرقميَّة على المجتمعات ليس نتاج التطورات الراهنة،بل سبق أن حذَّر من تبعاتها باحثين ومختصِّين قبل عقود ،منهم الكاتب (Paul Armer) ، الذي حذَّر في كتاب قيم صدر سنة 1966 من اعتماد المجتمعات المستقبليَّة على التقنيات الرقميَّة،وكشف مخاطرها على الأمن المجتمعي وتوازن سوق العمل.كما نشرت خلال العقود الثلاثة الماضية،دراسات عديدة عن مؤسسات علمية ومراكزدراسات متقدمة، عرضت أدلَّة واضحة على مخاطرالأَتمتة على سوق العمل،لعل ابرزها :
هذه التحذيرات الجادَّة من مخاطر التحوُّلات الرقميَّة قابلها مواقف ضعيفة مشكِّكة ونافية مخاطرها على مستقبل سوق العمل،عَجَزَ اصحابها عن تقدِّيم أدلَّة وبيانات تدعم مواقفهم .غالبية المواقف الداعية الى التوسع في استخدام الخوارزميَّات تبنت دفاعا قائماَ على اطروحتين.الاولى، اعتراف خجول ومتناقض في مسؤولية تطبيقات “الذكاء المصنَّع” الجزئية عن فقدان وظائف تقليديَّة،ومهن متوسِّطة المهارات. لكنَّها بالمقابل تخلق وظائف أكثر تطوُّرًا،دون تقديم مقايسة بين نسب الوظائف المفقودة والمكتسبة،أوأدلَّة تدعم قدرة الوظائف المتطورة المستحدثة على استيعاب ضحايا البطالة التقنية! في حين لجأت الاطروحة الثانية الى المماثلة بين نتائج الثورة الصناعيَّة في أواخرالقرن الثامن عشر،والتطور الراهن للتقنيات الخوارزميَّة. هذه المماثلة التاريخية خاطئة وغير موفَّقة بسبب تباين طبيعة كلٍّ من الحركتين ونتائجهما.فالثورة الصناعيَّة أنتجت معدَّات ذات طبيعة تكامليَّة سهَّلت للعاملين إنجاز مهامهم، وزيادة إنتاجيتهم،على خلاف التحوُّل الخوارزمي الراهن ذي الطبيعة الإحلاليَّة الطاردة، والبديلة للقوى البشريَّة العاملة!
لا مناص من القول،ان حماية سوق العمل، يتطلَّب مواقف حاسمة لرسم الحدود بين توسُّع (الخوارزميَّات) وحقوق العاملين ومصالحهم.المؤسَّسات الرسميَّة مطالبة في التدخُّل الاستباقي واجراء تقييم جاد وشامل لمخاطر التقنيات على سوق العمل،وصياغة لوائح تنظيميَّة تضمن التوازن بين ضرورات استخدام الخوازميات والتطورالتقني،والمحافظة على مصالح الطبقة العاملة ،واستقرارالاقتصاد الوطني لتفادي تكوين جيوش من العاطلين!
استشراف المستقبل وتحدَّياته،والتحذيرمن تبعات الأزمات المستقبلية لتفادي تداعياتها الاقتصاديَّة والاجتاعيَّة،واعداد الخطط الكفيلة في حماية مصالح الأفراد،وتوازن القطاعات،وضمان استقرارالاقتصاد الوطني ونموه تعد أهم مسؤوليات الاقتصاديين المتمرسين واكثرها ضرورة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال