الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
أكثر ما كان يشغل الساحة الاقتصادية مؤخرًا هي الارتفاعات التاريخية التي طالت أسعار الفائدة بالمملكة؛ فبعد أن كان سعر الإقراض بين البنوك السعودية (السايبور) يُتداول عند أقل من 1.00% في أوائل هذا العام؛ ها هو يُحلّق عند مستويات اقتربت من 3.50%. وبالتالي مفهومٌ أن تتأثر الأعمال جراء هذه الارتفاعات، وخصوصًا الكيانات التي لديها رافعة مالية عالية (نسبة قروض كبيرة)، أو استثمارات مربوطة بعوائد غير متغيرة كالصكوك ذات العائد الثابت.
لكن إليكم هذا المقال الذي يسلّط الضوء على شركات التمويل العقاري، وتأثير ارتفاعات الفائدة عليها من منظور مختلف. سنذهب في جولة تتجاوز التأثير المباشر الذي نعرفه جميعًا عن ارتفاعات الفائدة؛ حتى نتلمس كيف يطال التأثير القيمة الاقتصادية للشركة ككل، وكيف أن مفهوم إدارة المخاطر المالية، ممثلاً بمخاطر السوق والتحوّط، أصبح ضرورة مُلِحَّة للحماية من تقلُّبات كهذه.
حسب بيانات البنك المركزي السعودية الأخيرة؛ فإن مجموع القروض العقارية لشركات التمويل العقاري كانت عند قرابة 26 مليار ريال كما في نهاية الربع الأول لعام 2022م. جُلّ هذه القروض تم إصدارها في بيئة أسعار فائدة منخفضة وبتكاليف ثابتة على المقترضين. آجال القروض العقارية تصل إلى أكثر من عشرين سنة، وهذا بلا شك يجعل شركات التمويل العقارية تحت رحمة حركة أسعار الفائدة طويلة الأجل، مما يستوجب توفّر الإدارة الحصيفة لعمليات الأصول والخصوم (Asset & Liability Management)؛ لتقليل تأثيرات حركة الفائدة على مركز الشركة المالي.
سنقوم بشرح مفهومين مهمين لتأثير أسعار الفائدة على المركز المالي والاقتصادي لهذه الشركات؛ الأول مؤشّر يحسب التأثير على المدى الطويل، والآخر يُستعمل أكثر لقياس الأثر قصير الأجل.
المؤشر الأول: القيمة الاقتصادية لحقوق الملكية – Economic Value of Equity (EVE)
لحساب هذا المؤشر طويل الأجل؛ فإننا وببساطة نحتاج لمعرفة أمرين فقط؛ أولهما: القيمة الحالية لجميع التدفقات النقدية المستقبلية للأصول، وثانيهما: القيمة الحالية لجميع التدفقات النقدية المستقبلية للمطلوبات. عندما نأخذ شركات التمويل العقاري، فبالطبع عوائدها تتمثّل بعقود التمويل العقاري وتدفقاتها النقدية الداخلة الجليّة منذ اليوم الأول (هذه أصول)، ولديها كذلك مطلوبات وقروض مرتبطة بأسعار الفائدة، والتي تدفقاتها النقدية الخارجة محددة (هذه مطلوبات)؛ هذه المطلوبات غالبًا تكون مرتبطة بأسعار فائدة متغيرة مع السوق. عندما نطرح الرقمين من بعضهما البعض فيمكننا احتساب القيمة الحالية الصافية، وبما يسمى Net Present Value (NPV).
دعونا نربط هذا المؤشر بحديثنا هنا. عندما تكون أصول الشركة عبارة عن محفظة قروض عقارية طويلة الأجل على أسعار ثابتة (عوائد معلومة من اليوم الأول ولطيلة العقد)؛ فإن ارتفاعات أسعار الفائدة تُعرّض شركة التمويل إلى خسارة اقتصادية تتمثل في تكلفة الفرصة البديلة من إعطاء القرض في بيئة أسعار مرتفعة. بمعنى آخر، المقترض لن يفرّط بهذا القرض؛ نظرًا لارتفاع أسعار الفائدة.
المنطق الاقتصادي يقول: إنه إذا تمت مجابهة هذه الأصول مِن قِبَل شركات التمويل بمطلوبات تحاكي في حركتها حركة الأصول؛ فعندها تكون قد ضبطت لجام التغيرات في القيمة الاقتصادية لحقوق الملكية. أول ما يتبادر إلى الذهن الآن هو كيف يمكن لهذه الشركة أن تُقرِض لمدة عشرين سنة، ومِن ثَم تخلق التزامات أو تعرّضات توازي هذه العرضات (قيمةً وآجالاً)؟
الأمر يكمن في فن إدارة الأصول والخصوم؛ حيث يمكن إصدار ديون (صكوك مثلاً) تخفّف من هذه الفجوة أو الدخول بمقايضات أسعار الفائدة (أدوات المشتقات المالية) لرأب هذا الصدع الذي من شأنه توفير الحماية من تدهور قيمة الشركة عند ارتفاع أسعار الفائدة.
ولنا في إعلان الشركة السعودية لإعادة التمويل العقاري (المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة) مثال: عندما قامت في أبريل الماضي بإصدار صكوك بقيمة 10 مليارات ريال، والذي في ظاهره يساعد على توسيع قاعدة المقترضين، وزيادة معدل تملُّك المساكن، وهذا صحيح، ولكنه كذلك يخدم وبشكل أساسي إدارة الأصول والخصوم بشكل فعّال؛ للتقليل من آثار ارتفاع أسعار الفائدة مستقبلاً على المركز المالي والاقتصادي للشركة.
لن تبدو لك هذه الفجوة جلية عند الاطلاع على قوائم شركات التمويل، ولن تنعكس بقائمة الدخل، ولكن من المهم لصناع القرار في تلكم الشركات الالتفات لها وللمستثمرين أخذها بعين الاعتبار؛ لأنها تنظر إلى التدفقات النقدية على مدار السنوات القادمة. وعملية احتسابها ليس بالأمر الصعب إطلاقًا.
هل يجب على الشركة أن تجعل الفجوة صفرًا؟ بالطبع لا، ولكن يجب توضيح حدود المخاطر المقبولة هنا؛ بحيث يكون مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية على اتفاق تامّ حول مدى ما يمكن تحمُّله من تغيرات القيمة الاقتصادية لحقوق الملكية. نقول “تغيرات”؛ لأن القيمة المطلقة لا تعنينا بقدر ما تعني لنا التغيرات المتحصلة من حركة أسعار الفائدة.
بالتالي قد يعتمد المجلس حد تغير بالقيمة قدره مليون ريال لكل نقطة أساس (0.01%) حركة في أسعار الفائدة. عندها ستقوم الإدارة التنفيذية بالتحوط أو إعادة هيكلة الأصول والخصوم؛ بحيث لا يتجاوز المبلغ مليون ريال (مثال) مع كل حركة لنقطة الأساس هذه (صعودًا أو نزولاً).
بالمناسبة هذا الأمر ينطبق على أي شركة لديها نفس التعرضات بغض النظر عن النشاط، ولكن ذكرت شركات التمويل العقاري بالخصوص؛ لأن الأمر يمسها جميعها.
المؤشر الثاني: الربح المعرض للخطر – Earning at Risk (EaR)
الربح المعرض للخطر هو مقدار التغير في صافي الدخل بسبب الحركة في أسعار الفائدة على مدى فترة محددة ومختارة. هذا المؤشر يساعد المستثمرين والمتخصصين في إدارة المخاطر على فهم التأثير الذي يمكن أن يحدثه تغير أسعار الفائدة على المركز المالي للشركة وتدفقاتها النقدية.
على عكس المؤشر الأول؛ فإن هذا المؤشر يُستعمل للآجال الأقصر حسب الفترة المطلوبة، ويكشف المستور سريعًا عن أثر ارتفاع أسعار الفائدة على قائمة الدخل. دعونا نأخذ مثالاً هنا. بالنسبة لشركات التمويل العقاري، إذا تم اختيار السايبور لفترة ثلاثة أشهر كمرجع لحساب تكلفة القرض البنكي دوريًّا (في حال كان القرض مربوطًا بسعر فائدة متغير)، ونعلم أنه يوجد بالجانب الآخر قرضٌ عقاريٌ ثابت ولا يتم تغيير تكلفته على العميل؛ فإننا نستشف هنا أنه في صالح الشركة أخذ قروض متغيرة وتمويل عملاء المساكن بقروض ثابتة إذا كانت أسعار الفائدة السائدة بالسوق في انخفاض (ستستفيد الشركة من تكلفة اقتراض أقلّ، مقابل قروض عقارية تم تثبيتها في بيئة أسعار فائدة عالية).
ولكن ما يحدث بالأسواق حاليًا هو العكس تمامًا، فلدى شركات التمويل العقاري أصول تُعطي عائدًا ثابتًا بغض النظر عن الارتفاع الكبير في أسعار الفائدة، وبالجانب الآخر تكلفة الاقتراض ترتفع حيث يتم عادة إنشاء أو تجديد القروض بمعدلات فائدة مرتفعة. وبنفس المنطق في مؤشرنا الأول، فإن هذه الفجوة النوعية بين الأصول والخصوم ستسبب عدم تطابق في كيفية التفاعل لتغييرات أسعار الفائدة بين الفريقين –الأصول والخصوم –، مما سيؤدّي بلا شك إلى زعزعة قائمة الدخل وانحرافًا عن توقعات الربحية المرصودة مسبقًا.
نسأل مرة أخرى: كيف يجب التعامل مع هذه المخاطر؟ بنفس الكيفية نقول: إنه يجب على مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية أن يكون لها مرجع لمدى ما يمكن تحمُّله من مخاطر ودرجة الرغبة بالمخاطرة.
على سبيل المثال، يتم تحديد مبلغ أقصى معين يمكن تحمله لكل نقطة (0.01%) تحرّك في أسعار الفائدة؛ بحيث إذا زاد هذا المبلغ تقوم الشركة باتخاذ الإجراءات اللازمة لتقويض هذا الخطر؛ كأن تقوم بالدخول بعمليات مقايضة لأسعار الفائدة (Interest Rate Swap) للتحوط من مخاطر توالي ارتفاع أسعار الفائدة، أو معالجته من خلال إجراءات تحوط داخل الميزانية العمومية (On-Balance Sheet Hedge)، بتمديد أجل دورية إعادة احتساب السايبور من ثلاثة أشهر إلى اثني عشر شهرًا مثلاً.
كلمة أخيرة
مع بذل القليل من الجهد والعناية؛ سنستطيع إضافة الكثير إلى معرفتنا عن كيفية إدارة الشركة لتعرضاتها وعمليات إدارة الأصول والخصوم لديها.
على الرغم من أن المؤشرات التي ذكرنا تُستعمل لدى البنوك والمصارف بشكل أكبر، ولديها تحكم ومعرفة أعمق لإدارة الفجوات بين الأصول والخصوم، ولكن لا مانع أن تعتمدها المؤسسات المالية الأخرى التي تنشأ لديها نفس التعرضات. عندما تقوم المؤسسة المالية بوضع حدود للمخاطر وتتابعها، وتفهم التغيرات الطارئة على قيمتها جراء حركة أسعار الفائدة وأثرها على المركز المالي، فهذا يعتبر صمام أمان يحميها من مخاطر السوق وتغييراته غير المتوقعة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال