الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لا شك أن شيوع النظام العالمي الجديد قبل ثلاثة عقود لترسيخ مفهوم “العولمة”، التي أدت إلى ترابط دول العالم وانفتاح أسواقها على تبادل السلع والخدمات وتنمية الاستثمارات واطلاق ثورة الاتصالات وتقنية المعلومات، أخذت تتغير اليوم على خارطتنا الاقتصادية لتأسيس مفهوم “الأقلمة” بوتيرة متسارعة.
ونظراً لأن الدور الذي كانت تلعبه دول العالم في عصر “العولمة” أصبح عاجزاً عن تمكين قدراتها التنافسية الفردية لتحصين أمنها الغذائي وتطوير صناعاتها التصديرية وتنمية استثماراتها الأجنبية، مما جعلها أسيرةً لمبادئ “العولمة” وخاضعةً لاتفاقاتها المعقدة. وأفضل دليل على ذلك أن مكانة الولايات المتحدة الفريدة كأكبر اقتصاد في العالم، لم تعد اليوم المعيار الوحيد اللازم لتحقيق النتائج الملموسة والأهداف المطلوبة في التنافسية العالمية، مما دعاها لإبرام شراكاتها الاستراتيجية مع كندا والمكسيك من جهة والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، لتصبح هذه الشراكات المحك الأساسي والقوة الإقتصادية الإقليمية التي تعكس حسن أدائها بين دول العالم.
ولا شك أن الأحداث العالمية الراهنة، التي واكبت انتشار الأوبئة المعدية وتفاقم الصحة البيئية وتراجع سلاسل الإمداد الزراعية وارتفاع قيمة الديون السيادية وبزوغ فجر الحروب التجارية، أرغمت معظم دول المعمورة إلى استبدال مفهوم “العولمة” بمبادئ “الأقلمة”، وذلك لتوطيد شراكاتها الاستراتيجية داخل الإقليم الواحد وتذليل تحدياتها وتعميق روابطها وحجب مزاياها عن الدول الأخرى القابعة خارج الإقليم. كما منحت هذه التكتلات الاقتصادية القوة النظامية في فرض العقوبات على الدول المارقة عوضاً عن خوض الحروب الدامية معها. لذا ارتفع عدد الشراكات الاستراتيجية الإقليمية إلى 240 إتفاقية، منها دول مجلس التعاون الخليجي العربية، وأهمها دول الإتحاد الأوروبي ومجموعة دول شمال أمريكا، وأكبرها مجموعة “آسيان” لدول شرق آسيا، وآخرها مجموعة “بريكس” المكونة من روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا.
وتحتوي اتفاقية هذه الشراكات الإقليمية الاستراتيجية على أربعة خطوات رئيسية، تبدأ بإنشاء الإتحاد الجمركي بين الدول داخل الإقليم، مثل ما هو قائم بين دول مجلس التعاون، الذي يعتمد على تطبيق التعرفة الجمركية الموحدة على الواردات من الدول خارج الإتحاد، والمنفذ الجمركي الموحد لدخول واردات الدول خارج الإتحاد، والنضام الجمركي الموحد لإزالة كافة الرسوم الجمركية بين الدول الأعضاء داخل الإتحاد. وتأتي الخطوة الثانية تمهيداً لتكوين السوق الإقليمية المشتركة، للجمع بين الإتحاد الجمركي وحرية انتقال عناصر الإنتاج من عمالة وخدمات ورؤوس أموال، مثل ما هو قائم في اتفاقية “ميركوسور” المبرمة بين دول جنوب أمريكا. وفي الخطوة الثالثة تفرض دول الإقليم الواحد سياسة نقدية موحدة، يتم فيها تنسيق السياسات المالية وإطلاق العملة الموحدة والبنك المركزي الواحد، مثل ما تسعى إليه حالياً مجموعة دول “بريكس”. أما الخطوة الرابعة والأخيرة لهذه الشراكات فتنضوي تحت ظل تكامل اقتصادي شامل تتوحد فيه جميع السياسات الاقتصادية بين دول الإقليم، بحيث يكون الأداء الاقتصادي للتكتل الإقليمي مثل أداء الدولة الواحدة، وهذا ما هو قائم حالياً في دول الإتحاد الأوروبي.
للأسف الشديد أن الدول العربية، التي بدأت الخطوة الأولى من مراحل الشراكة الاستراتيجية بإطلاق اتفاقية الاتحاد الجمركي في تجارة السلع البينية، فشلت لدى دخولها حيز التنفيذ في عام 1998 بسبب استعاضة الدول العربية للتعرفة الجمركية المنخفضة بالعوائق غير الجمركية، التي أعاقت تدفق السلع بينها. كما لجأت بعض الدول العربية إلى فرض القيود الكمية، مثل نظام حصص الإستيراد وقيود الصادرات وإعانات التصدير، بالإضافة لتعقيد الإجراءات النقدية وفرض الرسوم الباهظة على التحويلات وفتح الاعتمادات، التي أدت جميعها إلى فشل الإتفاقية قبل ولادتها. هذا في الوقت الذي نجحت إتفاقية السوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا المعروفة باسم “كوميسا”، وإتفاقية دول الوحدة الاقتصادية لأفريقيا الوسطي العروفة باسم “إيكاس”، واتفاق التجمع الاقتصادي لدول غرب أفريقيا المعروف باسم “إيكواس”.
لذا ضماناً لمصالحنا الوطنية في عصر هذه المتقلبات، وتأكيداً على رغبتنا في محاكاة أكثر الفترات ديناميكية في تاريخ الاقتصاد العالمي، أخذت المملكة على عاتقها في ظل رؤيتها لتسعى اليوم بتوجيه خادم الحرمين الشريفين، وبقيادة ربان الرؤية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – حفظهما الله – لتكوين وتنمية شراكاتها الاقتصادية الاستراتيجية.
ونتيجة لهذه المبادرة السعودية صدرت في الأسبوع الماضي موافقة البرلمان الأوروبي على ميثاق الشراكة الاستراتيجية مع دول مجلس التعاون الخليجي العربية. وأكد البرلمان الأوروبي أن دول مجلس التعاون الخليجي تعد خامس أكبر سوق للاتحاد الأوروبي حالياً، بينما يمثل الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأول لدول المجلس، لتمثل التجارة الخليجية مع أوروبا أهمية بالغة إذ تساوي 25% من قيمة تجارة الدول الخليجية مع العالم أجمع، وتصل إلى 450 مليار دولار سنوياً.
وتتركز الصادرات الأوروبية لدول المجلس، في قطاعي الآلات والنقل التي تشكل 54% من جملة الصادرات، كما تشمل محطات تحلية المياه وعربات القطارات والطائرات والأدوات الكهربائية، فيما يستورد الاتحاد الأوروبي 70% من منتجات الوقود والبتروكيماويات من دول الخليج.
كما سارعت وزيرة التجارة الدولية في بريطانيا إلى زيارة الرياض مطلع الأسبوع الماضي لإطلاق مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة بين بريطانيا ودول مجلس التعاون. وأوضحت الحكومة البريطانية أن دول المجلس تعد سابع أكبر سوق تصدير لبريطانيا، ومن المتوقع أن تنمو التجارة البينية إلى 800 مليار جنيه إسترليني بحلول عام 2035، بزيادة قدرها 35%، مما يفتح فرصاً ضخمة للشركات الاستثمارية الخليجية والبريطانية.
ونظراً لأن الدول الخليجية تعتبر جزءاً لا يتجزأ من الدول الناشئة، التي تسيطر على 53% من الناتج الإجمالي العالمي، والمتوقع تزايده إلى 62% في عام 2025. وحتى لا يفوتنا قطار “الأقلمة” يتوجب علينا أن نبدأ فوراً في مفاوضات الشراكات الاستراتيجية مع الأقاليم الأخرى مثل مجموعة “آسيان” لدول شرق آسيا، ومجموعة “ميركوسور” لدول جنوب أمريكا، ومجموعة “بريكس” التي تتطلع إلى انضمام دول مجلس التعاون إليها.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال