الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يرى المفكر القانوني إلمار دريجر في كتابه الرائع “تفسير القوانين: النص والسياق و التفسير المقاصدي”، بأن فهم التشريع يتطلب غالباً تطبيق مبادئ اللغة والمنطق والفهم العام بأكثر مما يرجع إلى القواعد القانونية. كما يرى الفيكاونت سيمون في قضية Hill v Walliam Hill
” إن التفسير الملائم لمادة قانونية لا يتحقق بالرجوع إلى حكم قضائي في تفسير مادة مختلفة من قانون آخر إلا على وجه الندرة”، يتم هذا الطرح لمحاولة التحقق من دلالة عبارة “الموظف العام”؛ لمعرفة نطاق تطبيق توجيه مجلس الوزراء المؤرخ في ١٥/٦/١٤٤٣ المتضمن عدداً من الأمور منها: أولاً: التأكيد على جميع الجهات الحكومية ذات العلاقة بعدم انطباق حكم الفقرة (٢) من البند (رابعاً) من الترتيبات التنظيمية والهيكلية المتصلة بمكافحة الفساد المالي والإداري، الصادرة بالأمر الملكي رقم (أ/277) في ١٥/٤/١٤٤١ه على من يثبت اشتغاله بالتجارة من الموظفين العموميين باعتبار أن اشتغاله بالتجارة يعد مخالفة إدارية، ثانياً: التأكيد على جميع الأجهزة الحكومية ذوات العلاقة بأن الحظر الوارد في المادة (١٣) من نظام الخدمة المدنية خاص بالموظفين الخاضعين لنظام الخدمة المدنية أو الذي يعد النظام مكملاً لأنظمتهم الوظيفية.
بعد صدور توجيه مجلس الوزراء المشار إليه أعلاه، تداول عدد من القانونيين والمهتمين بالشأن القانوني والوظيفة العامة مفهوماً مفاده بأن نطاق منع الموظف العام من الاشتغال بالتجارة يشمل فقط الخاضعين لأنظمة الخدمة المدنية والتقاعد، أما الموظفين المرتبطين بعلاقة تعاقدية ويخضعون لنظامي العمل و التأمينات الاجتماعية فلا يشملهم هذا المنع، وبالتالي جواز اشتغالهم بالتجارة! فهل هذا التفسير لتوجيه مجلس الوزراء المشار إليه يعد صحيحاً؟
لو رجعنا قليلاً إلى معرفة المقصد التشريعي في منع الموظف العام من الاشتغال في التجارة، لوجدنا أن ذلك يعود لسببين:
-تجنب تعارض المصالح الذي قد يحدث عندما تتقاطع مصلحة الموظف مع تجارته.
-تخصيص الموظف العام الوقت اللازم لمصلحة المرفق العام الذي يعمل لأجله، والذي لا يتوافق مع الاشتغال بالتجارة.
كما أن الوظيفة العمومية تعتبر خدمة عامة يؤديها موظف عام للأفراد أو للدولة أو أحد فروعها أو مصالحها العامة في نطاق قانوني معين يحدد علاقته بمن يؤدي لهم هذه الخدمة وعلاقتهم بهم منظما لحقوقه وواجباته.
وقبل محاولة معرفة توجه المنظم السعودي في هذا الموضوع، من المناسب أن نلقي بعض الضوء على الفقه المقارن ممن نشترك معهم في اتباع المدرسة اللاتينية، حيث نجد أن القانون المغربي عرف الموظف العمومي في الفصل الثاني من قانون الوظيفة العمومية بأنه: ”يعد موظفا كل شخص يعين في وظيفة قارة ويرسم في إحدى رتب السلم الخاص بأسلاك الإدارة التابعة للدولة“. وبالتالي فالوظيفة الدائمة تعد معياراً مهماً في تحديد معنى الموظف العام. ويتفق القضاء الفرنسي مع هذا التوجه الذي يرى بأن الموظف العام هو الشخص الذي يعهد إليه بوظيفة دائمة داخلة في كادر مرفق عام. في حين أن محكمة النقض المصرية في الطعن رقم 13563 لسنة 62 القضائية ترى بأن الموظف العام هو الذى يعهد إليه بعمل دائم فى خدمة مرفق عام تديره الدولة عن طريق أحد أشخاص القانون العام الأخرى عن طريق شغله منصبا يدخل فى التنظيم الإداري لذلك المرفق ويستوي فى هذا الصدد أن يكون عمل الموظف فى مرفق إدارى أو مرفق صناعى أو تجارى كما يستوى أن تكون تبعية المرفق للحكومة المركزية أو لوحدات الإدارة المحلية. ومن هنا يمكن القول بأن معيار الوظيفة الدائمة مهم جداً في تحديد معنى الموظف العام في هذه الأنظمة المقارنة.
وعند محاولة معرفة مفهوم “الموظف العام” في النظام السعودي، نجد أن المستقر عليه في الأذهان بأن الموظف العام هو ذلك الموظف الذي يخضع لنظام الخدمة المدنية. إلا أنه بالرجوع إلى نظام الخدمة المدنية نجد أنه لم يتضمن تعريفاً للموظف العام، في حين أن اللائحة التنفيذية للكوادر البشرية في الخدمة المدنية عرفت الموظف العام بأنه:
“كل من يشغل وظيفة مدنية عامة في الدولة أو يمارس مهماتها أيا كانت طبيعة عمله أو التعاقد أو اسم وظيفته سواء كان ذلك عن طريق التعيين أو التعاقد بصفة دائمة أو مؤقتة”، في حين أن نظام الإنضباط الوظيفي عرف الموظف العام بأنه:
من يعمل لدى الدولة، أو لدى أحد الأجهزة ذات الشخصية المعنوية العامة بوظيفة مدنية -بأي صفة كانت- سواءً كان يعمل بصورة دائمة أو مؤقتة”. وهنا نجد أن نطاق الموظف العام أشمل من إتجاه المنظم الفرنسي والمصري والمغربي، حيث لم يحدده في الوظيفة “القارة” الدائمة، وإنما توسع ليشمل المتعاقد معهم بصفة مؤقتة.
وهنا قد يطرح أحدهم استفساراً مفاده: إن كان المستقر عليه بالنسبة لموظف الخدمة المدنية منعه من الاشتغال بالتجارة، فهل سيطبق هذا الحكم على الموظف في الوزارة المتعاقد معه كمستشار ضمن بند الكفاءات المتميزة، أوالذي يقوم بمهام وكيل الوزارة ويخضع للأحكام النظامية الواردة في قواعد ممارسة مهمات وظائف وكلاء الوزارات والوكلاء المساعدين الصادرة بقرار مجلس الوزراء رقم (٤٦٦) وتاريخ ٢٩/٨/١٤٣٩ه؛ لأن المنع إن كان جلياً في موظف الخدمة المدنية، فهو من باب أولى في حق المستشار الذي قد يشارك في رسم سياسات الجهة الحكومية، ووكيل الوزارة الذي يعد من قيادات الجهة الحكومية.
وهنا استرجع ما بدأت به مقالتي من أن فهم التشريع يتطلب غالباً تطبيق مبادئ اللغة والمنطق والفهم العام بأكثر مما يرجع فيه إلى القواعد والنصوص القانونية!
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال