الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في قضية نظرها ديوان المظالم في مكة المكرمة عام 1429 هـ تتلخص وقائعها في أن مواطناً رُزق بطفلتين – توأم – في مستشفى خاص، وبعد الولادة لاحظ الفريق الطبي حاجة إحداهما إلى كميات من الدم، فنقل إليها دم من بنك الدم دون علم والدها. تبيّن – لاحقاً – بالفحص إصابة الطفلة بفيروس نقص المناعة ( الإيدز) بسبب ان الدم المُتبرع به صادر من شخص فلبيني مصاب بالفيروس. فتوجه الاتهام إلى المستشفى حيث طالب الأب بعلاج ابنته مدى الحياة وتعويضه عن المنافع التي فقدتها ابنته على أن تُحدد تلك المنافع من مستشفى حكومي.
نظرت الهيئة الصحية الشرعية هذه الدعوى واطلعت على التقارير الطبية، وتبيّن لها صحة ما تعانية الطفلة من إصابتها بمرض المناعة المكتسب، وما صاحبه من عجز وتعطل منافع. وأن ذلك ناتج عن تقصير المستشفى بعدم اجراء فحص كامل على المتبرع وخاصة فحص ( agp 24) الذي يكشف عن فيروس الإيدز. لذا قررت الهيئة بالأكثرية إلزام الطبيب بدفع 280 ألف ريال، على التفصيل الآتي:
ج- 100 ألف دية العجز في التحكم في الخارج من السبيلين، عن كل سبيل خمسون.
هـ – 50 ألف دية فقدان منفعة المناعة ضد الأمراض.
كما ألزمت المستشفى بدفع مائة ألف ريال لمخالفة نظام المؤسسات الصحية – مادة 17- ومخالفة ما صدر عن وزارة الصحة من تعليمات.
إلا أن والد الطفلة لم يرض بهذا الحكم فاعترض لدى ديوان المظالم لأن مرض ابنته مستمر طيلة حياتها مما يتطلب معه علاجها حتى وفاتها. وأن التعويض الذي حكمت به اللجنة قد تجاهل التعويض عن تعطل منافع أخرى، وعن تعويض والديها عن الأضرار المادية والمعنوية. بيدَ أن ديوان المظالم أيّد الحكم حيث لم ير فيه ما يستوجب النقض.
هذه القضية المؤلمة تحوي عدداً من المسائل تستوجب مناقشتها مثل: الإهمال الطبي المصاحب لنقل الدم ومدى مسؤولية الطبيب، والخطأ الطبي في القضية، وعدالة التعويض، والأسباب الخفية في عدم نقض الحكم.
المسألة الأولى: التبرع بالدم:
عملية أخذ دم من متبرع تكتنفها مخاطر حيث يجب التأكد من سلامة المتبرع، وجودة الحفظ، ومطابقة فصيلة الدم عند نقله إلى مريض. وليس من مسؤولية الطبيب سلامة الدم أو جودة الحفظ فذلك عائد إلى بنوك الدم والطاقم الطبي أو الفني فيها. وتنحصر مسؤوليته في مطابقة الدم المنقول لفصيلة دم المريض، إضافة إلى أخذ موافقته المستنيرة قبل النقل بإيضاح البدائل والمخاطر والمنافع.
الثانية: الخطأ الطبي في القضية:
بما أن نتيجة الوالدين سلبية أي عدم وجود فيروس نقص المناعة في أحدهما؛ فهذا يعني أن الفيروس انتقل إلى المريض من المستشفى. وكثيراً ما يُصاب مريض بعدوى داخل المستشفى، لذا يحرص الأطباء على عدم إبقائه إلا لضرورة، ومن هنا جاءت جراحة اليوم الواحد. وكما أسلفنا فإن تلوث الدم لا تقع مسؤوليته على الطبيب، وإنما على الجهة المشرفة على فحص الدم حيث يتوجب فحصه من التهاب الكبد وفيروس نقص المناعة عند التبرع. ويتحمل الطبيب المسؤولية في حال نقل الدم إلى مريض دون موافقته أو موافقة وليّه، أو عند خطأ في تحديد فصيلة الدم المطابقة.
الثالثة: عدالة التعويض:
رأينا من القصة أن مبلغ التعويض لم يتجاوز 300 ألف، والحقيقة أن هذا التعويض لا يجبر النفس ولا يسد الحاجة. ونرى بوناً شاسعاً حين نقارن هذا بما أوردناه سلفاً عن تعويضات كبيرة في بعض الأخطاء الطبية في بريطانيا تجاوزت مليون جنية استرليني. بل نرى أحياناً تعويضاً ضخماً لرجل طاعن في السن، فكيف بطفل قد أقبل إلى الحياة ليجد نفسه يكابد لذتها بدلاً من أن يستمتع بها. وإن نظرة إلى واقع الطفل ومعاناة والديه لا يسعف معها المنطق أن يجعل هذا التعويض في دائرة المعقول. ففقدان عدة منافع لا يكفي فيها الدية، لأن الدية تعدّ جبراً لخاطر كسير بتعويض عن مفقود. فالأسرة حين تفقد أحدها تُعوّض بالدية، وينتهي الأمر. هذا في حال كان فقده نتيجة خطأ أما لو كان عمداً فالأمر مختلف. وحين يفقد الإنسان عضواً تسبب فيه أحد بطريق الخطأ، فالدية فيه تعويض. لكن لو تضرر عضو آخر أو ترتب على فقد العضو هذا ضرر آخر، فالشريعة لا تمنع من تقييم الضرر وتعويض المتضرر، لذا تكلم الفقهاء عن مسألة سراية الجناية، أي امتداد أثر الجناية إلى عضو آخر.
وهنا نتساءل، هل يمكن قياس الخطأ الطبي الذي فيه إهمال واضح على مسألة الخطأ المحض الذي تكلمت عنه الشريعة فجبرته بالدية؟ ألا يمكن أن يُعمل الفقيه الشرعي أو القانوني أو القاضي نظره في القضية ليرى هل تموضع القضاء والقدر لدى الناس في الخطأ الطبي، يشابه موضعه في الخطأ المحض وإن ترتب عليه وفاة؟ أم نجد تباين الرضى فيهما؟ إن اعتبار اللجنة الخطأ الطبي كأي خطأ آخر، بحيث يترتب عليه نفس التعويض بالدية أمرٌ قابل للنقاش ولا يمكن التسليم به ابتداءَ.
ماذا يمكن أن يُقال إذا امتد أثر الجناية إلى الوالدين – كما نرى في هذه القضية – حيث يتوسل الأب أن يتكفل المستشفى بعلاج ابنته طيلة حياتها فقط وليس طيلة حياة الكون! لكن الحكم جاء خلواً من ذلك بل لم يتطرق إليه. ونحن قد اطلعنا في قضايا من مقالات سابقة أن المستشفى يتكفل بدفعات مستمرة سنوية طيلة حياة المريض. في المقابل، نجد أن القانون قد حظر مسألة الإثراء بلا سبب، وجعلها مسألة يمكن معها الاحتجاج بتقليل التعويض حتى لا يحصل الإثراء، لكن أن يكون الخطأ سبباً للمعاناة وسبيلا إلى فقر ذات يد الوالدين، فهذا مما غفل عنه القانون، أو لم يدر بخَلد اللجنة الصحية الشرعية – الموقرة -، أو لم يتفطّن لها المترافع في القضية.
من المقبول أن يُحكم لمن فقد بصره بدية، لكن هل له أن يُطالب بقائد يقوده أو نحوه؟ ذلك مما لم نسمع عنه أو نقرأه، ولو حصل، فليس ذلك إلا جمود على نص غير جامد وفهم تُعوزه الحجة. وفي القاعدة الشرعية “الضرر يزال” مندوحة لمن رام زيادة التعويض على أساس فقهي. على أن ثمة نصوصاً لفقهاء – في كتب المقاصد ونحوها – ما يُؤيد زيادة التعويض. ماذا لو اعتدى إنسان فأحرق مركبة آخر؟ هل سيكون التعويض بقيمة المركبة فقط؟ أم سيُنظر إلى الأيام التي استأجر فيها مركبة أو كان متوقعاً استئجاره؟ هذا مثال جاء لتوضيح أن التعويض عن فقدان شيء لا يعني أنه يسد النظر عن تعويض ما ترتب عليه من ضرر. فدية العين جاءت لتعويض فقدان العين لكن أن يبقى الإنسان دون قائد فذلك مما يستوجب التعويض كحال من فقد مركبته بتعويضه عن الأيام التي بقي فيها دون مركبة.
وأن يولد الإنسان ليجد نفسه مصارعاً لملذات الحياة، وليس للأوائها وضنكها فحسب – على ضيق ذات اليد -؛ فذاك مما لا تقره قواعد الشرع. ولستُ أنزع في هذا إلى معارضة الحكم، بل أقرأه من زاوية أخرى قد أكون فيها مصيباً، وقد لا أُحمّل في الوقت ذاته أعضاء اللجنة بقدر ما ألوم المحامي أو الوكيل الذي لم تسعفه الحجة في دحض أسباب الحكم، على ما سأوضحه في خاتمة المقال.
ومن جهة أخرى، نلحظ أن المبالغ المحكوم بها قد جاءت وهيي مشدودة إلى تعويض فقدان المنافع فقط، لا إلى دفع المضار أو إزالة الضرر المترتب. إن فقدَ منفعة عضو، أمر ندركه، لكن ماذا لو استمر الضرر من فقده؟ هل يمكن التعويض عن الضرر المترتب؟ ماذا لو أخطأ أحد على آخر فترتب عليه شلل يده، هل يُكتفى بدية اليد، حتى لو فقد عمله؟
في محكمة الجنايات بالأدرن – عمّان – نُظرت قضية مشاجرة بين زملاء عمل عام 1419هـ حيث ضرب أحدهم بجمع يده على عظم يد زميله مما ترتب عليه شلل يده. المحكمة رأت أن هذا اعتداء حتى لو كان الطرف الآخر هو الذي قد بدء، فليس هناك سلاح محمول، مما يسقط حقه في الاحتجاج بالدفاع عن النفس، وتسببه بعاهة مستديمة ضرر يستلزم التعويض. وألزمت المحكمة المعتدي بدفع دية للمتضرر، مع علاجه في أفضل المراكز، والإلتزام ب دفع مرتبه الشهري. بيدَ أن الشركة التي يعملون بها تعاطفت مع المتضرر، واعتبرت أن الإصابة إصابة عمل وتكفلت باستمرار الراتب الشهري.
الرابعة: فقدان المناعة:
إن فقدان المناعة نتيجة الاصابة بفيروس نقص المناعة؛ أمر خطير إذ يعني ذلك فقدان أقوى خط دفاعي للجسم ضد جميع الأمراض، حيث يبقى الجسم معرضاً للإصابة بأي فيروس حتى ولو كان غير خطير والتي قد تسببها بكتيريا أو جراثيم أو فطريات. فعلي أي أساس استند الحكم في تعويض المريض؟ وهل خمسون ألف ريال تجبر فقدان المناعة من الأمراض؟! إذا صح، فهل يصح التعويض عن شيء مجهول لم يحصل؟ إذ لا أحد يعلم عن عدد المرات التي سيُصاب فيها المريض بأي عدوى؟ ولا يعلم أحد ما العلاج الذي يتطلبه ذلك المرض وما كُلفته؟ولا أحد يعرف على أي حال سيكون عليها المريض حين يصاب لضعف المناعة عنده؟ ولا نعلم عن المضاعفات التي قد تحصل ولا التدخلات الجراحية التي قد تتطلبها حالة المريض؟ الإصابة بالعدوى – على سبيل المثال – قد تؤدي إلى تلف الكليتين أو أي عضو حيوي آخر.
المنطق الطبي يقول إن جميع أعضاء الجسد قد باتت مهددة في أي وقت، وهذا أمر ليس احتمالاً قد يقع أو لا، بل احتمالية وقوعه كبيرة جداً، وهذا ما جعل الحكومات والناس يتخوفون من ضعف المناعة في الجسم ويسعون بشتى الطرق لتفاديه. فكيف والقضاء والطب يُقرّان – في هذه القضية – بفقدان المناعة! واحتمالية الوقوع شبة المؤكدة تُنزل منزلة الحقيقة الواقعة. والضرر المستمر ليس ضرراً منفصلاً. فدية فقد منفعة اليد، ضررها ظاهر وهو فقد منفعتها، لكن فقد المناعة يترتب عليه فقد جميع المنافع. وإذا علمنا أن الطفلة قد تأثرت أطرافها ومسالك فضلاتها، فإن تضرر البنكرياس متوقع، وتعطل الجهاز الهظمي محتمل، وإصابتها بمرض خطير كالسرطان غير بعيد. إضافة إلى تعطل الزواج والإنجاب، وما يمكن أن يلحق بذلك من سمع وشم وذوق. قد يموت الإنسان ولا يستحق ورثته إلا دية واحدة، وقد يبقى حياً ويستحق عشرين دية. واذا أقرت الشريعة تعدد الديات للفرد الواحد وهو حي فهل لا تقر ضمان علاجه ودية ما يحتمل وقوعه!
والمنطق القانوني يقول: كان على المحامي أو المستشار الذي كتب لائحة الدعوى أن يضمّن ذلك في لائحته وأن يحاول نقض السبب الذي استند عليه الحكم في التعويض عن فقدان المناعة. ويوجه سؤالاً للجنة، هل فقدان المناعة عن الأمراض، هو فقد لمنفعة واحدة أم متعددة؟ وطالما نطقتم بجمع المرض على “أمراض” فإن هذا يعني أن المنافع المفقودة متعددة وليست واحدة، لذا فإن التعويض بدية واحدة عن الأمراض متناقض؛ دية واحدة عن أمراض؟ على أن الدية هنا خمسون ألف ريال فقط، أي على النصف من دية الرجل. فهل ستتلقى علاجاً تكلفته تعادل نصف تكلفة الرجل؟
كان على المنطق القانوني أن يفرض نفسه ويُطالب باستحقاق الطفلة لمنزل مستوٍ بأرض الطريق لتسهل عملية الانتقال من البيت إلى المركبة؟ وكان عليه – أي المنطق القانوني – أن يسأل عمن سيتحمل علاج الطفلة طيلة حياتها. نعم، إنها قد عوّضت عن فقدان منافعها لكن من يلتزم برعايتها صحياً. هل على الوالدين أن يفقرا بلا سبب على غرار “الاثراء بلا سبب”!
الحقيقة أن الحكم لم يتطرق إلى مسألة من يتولى رعايتها صحياً. هل غفل عنها المحامي؟ أو أن ذلك من مسؤولية اللجنة؟ ربما قد لا تكون اللجنة مسؤولة عن ذلك إذ سيكون حكمها غير محصن من الطعن لأنها حكمت بما لم يطلبه الخصم. الطفل سيحتاج الى رعاية 24 ساعة على مدار اليوم والليلة والشهر والعام والدهر، وهل على أحد الوالدين أن يترك عمله ليتفرغ للطفلة أو يدفع من حر ماله ليجلب من يعتني بها أو يبقيها في مشفى!
ماذا لو قرأ الوالدان هذا المقال وعلما أن من الأسباب الخفية في عدم نقض الحكم هو عدم الطعن في صحة التعويض عن فقدان المناعة بهذه الطريقة. أو عدم الطعن في صحة التعويض عن فقدان الأطراف العلوية والسفلية بنسبة 60% وهل يُسلّم صحة التعويض عن فقدان النطق بما نسبته 40% في حين أن فقد منفعة العقل 100%! ونحن نعلم ترابط العلاقة بين العقل والنطق. ماذا لو أثار المحامي أو المستشار تلك المسائل، واعترض حينها، فهل يمكن أن يؤيد الديوان قرار اللجنة؟ وإذا فات ذلك، فهل يحق للأب أن يتقدم إلى الديوان لطلب التعويض لأن ذلك مما يستجد..!
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال