الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
قد يخفى على الكثير حقيقة أنه لا يوجد قانون مالي عالمي يطبق في جميع دول العالم سواء كان في القطاع البنكي أو في قطاع الأسواق المالية ” البورصات”، وأن ما هو مطبق حاليا هو تضمين الدول لتوصيات لجنة بازل للرقابة المصرفية في أنظمتها المصرفية المحلية في القطاع المصرفي، في حين أن الأسواق المالية لازال نطاقها التشريعي العالمي يقتصر على محاولات التجانس، وتوحيد المعايير الخاصة بالبورصات العالمية، وتحديد نقاط الضعف والخطر والعدوى من قبل عدد من المؤسسات الدولية كمجلس الاستقرار المالي Financial Stability Boardو صندوق النقد الدوليInternational Monetary Fund والذي يعد أحد معدي سياسات قمة دول العشرين فيما يتعلق بالقطاع المالي و إصلاحاته.
ومع التشديد على أهمية التعاون والتجانس الدولي فيما يتعلق بالأسواق المالية، لما له من أثر هام على استقرار ونمو الاقتصاد العالمي وخلوه من الأزمات، إلا أنه يجب التشديد أيضا على أن الأسواق المالية لا ينطبق عليها حال واحد أو تناسبها ظروف واحدة كوصفة سرية للنجاح يمكن تطبيقها على الأسواق المالية كافة، وذلك يعزو إلى اختلاف الدول في عوامل نشأتها وفي أنظمتها التشريعية والرقابية والسلوكية لمتداوليها.
برزت ” الليبرالية الحديثة” منذ أواخر السبعينات الميلادية كتوجه اقتصادي يعنى بتقليل التدخل الحكومي في الاقتصاد بشكل عام وفي الأسواق المالية بشكل خاص. كما تعنى بتسليط الضوء على أهمية تحرير الأسواق المالية، وذلك بإزالة القيود الخاصة بتدفق رأس المال والقيود الخاصة بالمتداولين، كالقيود الخاصة بمنع المستثمرين الأجانب من التداول في الأسواق المحلية، أو حتى القيود الخاصة بإدراج الشركات. فتحرير الأسواق المالية يهدف إلى زيادة القيمة السوقية للأسواق وزيادة التدفق النقدي بالإضافة إلى زيادة التنافسية وتعزيز نمو القطاع الخاص والمؤسسات المالية. الأمر الذي يتطلب ضرورة الحد من التدخل الحكومي، وأن التدخل الحكومي لا يكون إلا في حالة انهيار السوق، أو في حال عدم مقدرة أعضاء السوق على إيجاد الحلول. فهم يرون أن التدخل الحكومي مكلف من ناحية مالية، كما أنه قد يعيق من تطور الأسواق المالية بكثرة القيود للتشريعية وكثرة العقوبات. هذا الاتجاه ظهر جليا ولايزال يظهر في عدد من أوراق العمل والنصائح الخاصة بالبنك الدولي، ومجلس الاستقرار المالي وصندوق النقد الدولي في اجتماعات الدول العشرين.
وعلى الرغم من أن هذا المقال لا يتناول الجانب الاقتصادي لليبرالية الحديثة أو توضيح جدواها، إذ أن المقصد هو توضيح الأسباب التي جعلت من البورصات العريقة تاريخيا كبورصة لندن ونيويورك بأن تصبح منظمة ذاتيا. بورصات منظمة ذاتيا يقصد بها بأن البورصة نفسها هي من تقوم بتحديد شروط ادراج الشركات وقواعد التداول والسلوكيات المحظورة وغيرها، وبالتالي خلوها من التدخل الحكومي تشريعيا ورقابيا أو حتى قضائيا. ففي توضيح هذه الأسباب أهمية خاصة لتفنيد الادعاءات المطالبة بتحرير الأسواق المالية وضرورة خلوها من الرقابة والتشريع الحكومي كشرط لنجاحها في عدد من دول العالم، فهذه البورصات نشأت تاريخيا في عوامل مختلفة أدت إلى خلوها من التشريع والرقابة الحكومية.
هذه البورصات نشأت تاريخيا قبل استحداث الجهات التشريعية والرقابية في بلادها بزمن بعيد، ففي بريطانيا أول جهة حكومية تعنى بتنظيم الأسواق نشأت في١٩٩٧ في حين أن بدايات بورصة لندن كانت في ١٦٩٨. أما بالنسبة لبورصة نيويورك فقد نشأت عام ١٧٩٢ في حين أن هيئة الأوراق والبورصات المالية الأمريكية استحدثت عام١٩٣٤ كوسيلة لاستعادة الثقة بعد أزمة الكساد الكبير. فبورصة لندن ونيويورك كانتا بورصات قائمة على التشريع الذاتي لعدم وجود جهات حكومية تقوم بهذه المهمة، فالتشريع الذاتي يستند على حقيقة أن المصالح الخاصة بمتداولي السوق تجعلهم يؤمنون بضرورة وضع قواعد مدفوعة بحاجتهم لنجاح وسلاسة السوق. أما من ناحية رقابية، فهم يرون بأن من يقيم الشركات هم متداولين السوق في حال قيامهم بالبيع للشركات الخاسرة عقابا لها، والشراء للشركات المحققة للأرباح.
أما من الناحية القضائية والتي تتمثل في عدم قابلية منازعات بعض الأوراق المالية لتنفيذ القضائي أمام المحاكم، والذي كان من أهم أسباب استعانة متداولي هذه الأوراق لمنصات التداول الخاصة لكي تضع قواعد للنزاع مما يجعل هذه العقود صالحة للتنفيذ. فالمحاكم الإنجليزية على سبيل المثال، كانت تمتنع عن قبول المنازعات التي يكون محل النزاع فيها عقود المشتقات المالية. فعقود المشتقات المالية هي أوراق مالية تقوم على أن يدفع أحد أطراف العقد مبلغا من المال للطرف الآخر والذي يتحدد بناء على توقع حدوث أمر مستقبلي. فهي أوراق مالية تشتق قيمتها من عدد من الأصول الحقيقية كالذهب والنفط أو الأصول المالية كالأسهم. فمتداوليها يهدفون من وراء شرائها التحوط ضد مخاطر تقلب أسعار الأصول المشتقة منها أو لمحاولة كسب المال من خلال تكهن أمر في المستقبل بشكل أفضل مما يتوقعه الآخرون.
فالمحاكم كانت تنظر النزاع فقط في حال كان أحد أطراف النزاع سيحصل على الأصل محل العقد، وبالتالي منازعات المشتقات المالية القائمة على الرغبة في الرهان والمضاربة دون الرغبة في تملك الأصل محل العقد كانت تعد عقود باطلة قانونيا وغير قابلة للتنفيذ. هذه المعاملة كانت تستند على أسباب دينية في تحريم الرهان، وعلى أسباب اقتصادية تستند على احتمالية أن الطرف المراهن سيعمد إلى أساليب احتيالية لتحقيق توقعاته المستقبلية. أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد كانت هناك قيود قانونية على المضاربة في المشتقات المالية، والتي كانت أيضا من أسباب اعتماد البورصات على نفسها لتنفيذ منازعات هذه العقود. هذه القيود القانونية أزيلت في العصر الحديث باستحداث The Commodities Future Modernization Act 2000.
أخيرا، من المهم معرفة السرد التاريخي والظروف التي أدت لنشأة وتطور البورصات العالمية العريقة بشكلها الحالي، وذلك لأن في دراستها وتحليلها إجابة على العديد من التساؤلات، من أهمها إدراك اختلاف الأسواق بطبيعتها ونشأتها، وأن ما ينجح وينطبق على بعض الأسواق، ليس بالضرورة من متطلبات نجاح أسواقنا في المملكة. فمن وجهة نظري، عوامل نجاح الأسواق تكمن في تصميم البنية التشريعية والرقابية المناسبة لظروف كل سوق ونشأته والمستوى المادي والمعرفي والسلوكي لأعضاء السوق ومتداوليه.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال