الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
كثير من الدول حول العالم، لديها تاريخ طويل في كتابة الدساتير و القوانين. وفي قراءة شخصية للتطورات التشريعية حول العالم، دول اوروبا حاليا تعتبر من أكثر الدول التي تعمل بشكل جاد في تحسين البيئة التشريعية، خصوصا بعد أزمة Covid-19 . السبب يعود الى الازدواجية بين القوانين الوطنية و قوانين الاتحاد الأوروبي. كذلك، الولايات المتحدة الامريكية والمملكة المتحدة، تعمل بشكل متسارع لتطوير نظريات التشريع القانوني الذي لا يسع شرحه في مقال أو اثنين. بشكل عام، عملية التشريع ليست بالعملية السهلة، فهي ليست مجرد اجراءات ادارية وخطوات محددة يتم اتباعها، وإنما التشريع هو أعقد بكثير.
بديهيا، إن تصميم القانون وصياغته يتطلب خلفية قانونية ومهارات لغوية قوية ، فضلاً عن معرفة دقيقة بالموضوع الذي سيتم تنظيمه: الجوانب الادارية والموضوعية المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بموضوع التشريع ، وكل هذا يجعل صياغة النص التشريعي عملية معقدة. علاوة على ذلك ، يتأثر صنع القانون بشدة بالسياق التاريخي والسياسي والاجتماعي والثقافي ، والذي يؤثر حتما على المشرع و على صانع القرار.
لذلك، فالتشريع له اركان اساسية لابد من اتقان تطبيقها والتي تشمل أدوات التشريع و مدارس التشريع. وأركان لها علاقة الأساس التي يبنى على التشريع من حيث اختلاف المدارس القانونية والادارية ذات العلاقة بالتشريع وكتابة القوانين. الأخيرة تكمن بها الصعوبات، حيث انها متغيرة و متطورة، وبالتالي عنصر الاستمرارية في تعلمها شرط اساسي من اجل اتقان استخدام ادوات التشريع التي تطبقها كثير من الدول، من ضمنها المملكة العربية السعودية.
اذا، الأدوات هي عبارة عن معايير دولية تم إقرارها من المنظمات الدولية. ولكن أساس القانون هو ما ينبع من داخل الدولة من حيث نظامها السياسي، وثقافتها، وخلفيتها التاريخية، اقتصادها، نضج مؤسساتها، ونضج انظمتها وتشريعاتها، و معدل الفساد فيها. فهذه جميعها تعتبر من المؤثرات على عملية صناعة التشريع. مثلا، ايطاليا تعتبر من الدول التي قطعت شوطا في عملية التشريع، خصوصا انها من الدول التي عانت كثيرا من تغلغل أفراد عصابات المافيا في قطاعاتها الحكومية والسياسية، وبالتالي كانت تؤثر بشكل صارخ على جودة التشريعات. عند ثمانينات القرن الماضي بدأت إيطاليا تشعر بوجود تهديد قوي بخصوص جودة القوانين. وبالتالي، عند دراسة قوانينها وتشريعاتها وجد المختصون ان إيطاليا تعاني من انتكاس التشريعي، متمثلا في وجود ظاهرة “تضخم” و “تلوث” التشريعات.
يشير التضخم التشريعي إلى زيادة التشريعات التي تؤدي إلى إنتاج نصوص قانونية غير مدروسة بشكل صحيح بسبب عدم وجود الدراسات التطبيقية. بالتالي، تقود هذه الظاهرة الى تعارض النصوص مع بعضها البعض و تكدس القوانين التي تعيق تحقيق العدالة في كثير من الأحيان. كما أن التضخم التشريعي يشير ايضا الى التركيز على موضوعات معينة في النظام، مع إغفال جوانب كثير مهمة، كان بالاحرى ان يهتم هذا النظام بتنظيمها وتشريع قوانين تختص بها، وبالتالي ينتج لدينا ما يسمى الحشو التشريعي بسبب عدم الإلمام بجميع الجوانب العامة التي تهم المتعاملين بالنظام.
من ناحية أخرى ، يشير التلوث التشريعي إلى كل تلك العيوب التي تجعل التشريع غامضًا و جامدا ومتناقضًا وغير قابل للتطبيق. المظاهر النموذجية لهذا التلوث هي: الغموض الدلالي ، الذي يشير إلى عدم اليقين بشأن المعنى الذي يجب أن يُنسب إلى مصطلح أو عبارة معينة ؛ الغموض النحوي ، الذي يشير إلى عدم اليقين الذي لا يعتمد على معنى الكلمة ، ولكن على موضع الكلمة في الجملة أو على الطريقة التي ترتبط بها الكلمة نفسها بالآخرين ؛ غموض القاعدة الناجم عن استخدام مصطلحات ذات معنى غير محدد . مثلا، عندما عمد القانونين على دراسة تشريعات ايطاليا، لاحظوا انه يوجد قاعدة قانونية لها علاقة بموضوع”إلغاء الترشيح على وظيفة أو على عضوية معينة في أحد أجهزة الدولة”، وتذيل هذه النصوص القانونية، نص قانوني آخر، ألا وهو: “جميع القوانين و اللوائح التي لا تسمح بالغاء الترشيح المسموح به بموجب هذا القانون ملغاة ولا تطبق”. وبالتالي ينتج عن ذلك تلوث تشريعي. المشكلة بوجود التلوث التشريعي هو عدة أسباب، باعتقادي جميعها خطيرة. فيحتمل حدوث التلوث التشريعي عدم الاتساق في عملية التشريع بين المشرع واصحاب المصلحة والاجهزة ذات العلاقة والسياسة العامة للدولة و الأيديولوجية المسيطرة، وجود تعارض مصالح، او وجود أهداف تخص من يرفض فكرة إلغاء الترشيح، وهنا ندخل في موضوع آخر، ألا وهو تقديم المصالح الشخصية على المصلحة العامة عند بناء القانون او التشريع.
كما ينتج عن التضامن و التلوث التشريعي اللوائح الطفيلية ، أي تلك المواضيع الاساسية التي يسكت عنها النظام بحجة انه عند ظهور الحاجة لتنظيمها، اللائحة هي من سينظمها. ولكن السؤال هو هل تنظمها اللائحة، وفي حال نظمتها، كيف سيتم تنظيمها؟ وبالتالي فاللوائح الطفيلية هي ما تتضمنها اللائحة فيما يتعلق بمسألة مختلفة تمامًا عن موضوع اللائحة، واضطرت اللائحة لتنظيمها بسبب مشكلة التلوث التشريعي. وهذه تشمل التعاميم والقرارات الادارية الداخلية .. وغيرها من انواع اللوائح الداخلية التي تنظيم مواضيع هامة جدا كان بالاحرى وجودها في نص النظام نفسه.
وللاسف، اننا في حال وصلنا لمرحلة اللوائح الطفيلية، فهنا يصعب اكتشافها من قبل المشرع ذاته من ناحية، وكذلك من قبل المستفيدين ناحية أخرى. لأنه غالبًا لا توجد علامة على وجود نصوص تنظم هذا الموضوع في عنوان القانون. وبالتالي، عند الحاجة لمثل هذا النص القانوني، لا يمكن ان يجدها إلا من يكون لديه نفوذ في الجهاز الإداري، او من لديه العلم الكافي على وجود مثل هذا النص اللائحي. وهذا يترتب عليه فقدان الثقة بالعدالة بالتشريع، وتصبح هذه اللوائح الطفيلية عبارة عن اداة تثير الفوضى الداخلية في اي جهاز إداري وتنظيمي.
وهناك ايضا مشكلات اخرى عانتها الانظمة الايطالية، لها علاقة بموضوع التقسيم الطبقي للائحة، والذي يحدث عندما تتداخل عدة قواعد قانونية تنظم نفس الموضوع في فترة واحد. وهذا الامر ادى على انتشار موضوع اساءة استخدام السلطة و التعسف في استخدامها، وينتج عنها إصدار قرارات تتساوى في المعطيات، تختلف في النتيجة. وهذا ينعكس ايضا، على الجهاز القضائي، فالجهاز القضائي أيضا كان يعاني صعوبة التنبؤ بالأحكام بسبب تضخم و تلوث التشريع. فعندما يبحث القاضي عن نص قانوني للمسألة المعروضة أمامه، لا يجد اي شي له علاقة بموضوع النزاع المعروض أمامه. لذلك، يعتمد على اللجوء المتكرر إلى القوانين العامة،واللوائح الطفيلية، قواعد قانونية عامة تتوافق مع ما يعتقده القاضي، والتي هي ايضا غير مستقرة، وتتغير باستمرار.
كل ما سبق ذكره، يترتب عليه انخفاض مستوى “الأمن القانوني” او الامن التشريعي، بسبب عدم وضوح الرؤية التشريعية. وهذا الذي عانت منه ايطاليا لسنوات طويلة في أجهزتها التشريعية، والتنفيذية، والقضائية. وهذا ما ادى انتشار عصابات المافيا داخلها، والذي انعكس على معدل الفساد داخلها. ومنذ ذاك الحين، الى وقتنا الحاضر، حققت ايطاليا تطورا ملحوظا في تحسين البيئة التشريعية، وبعد أزمة كوفيد، اكتشفت مشاكل تشريعية اخرى تعمل الان على حلها بشكل جاد.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال