الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
إتماماً لما بدأناه من الحديث عن عقود البوت وأثرها الفعال في المجتمعات يأتي الحديث الآن عن التكييف الفقهي للعقد والتوصيف الشرعي له، والحقيقة التي نؤسس لها في هذا المقال لا تعني أن الموضوع يقبل النقاش والطرح العلمي من قبل القراء الكرام وخاصة المتخصصين منهم، وأرحب بجميع الآراء المشاركة في هذا الموضوع أو غيره، وأما ما يتعلق بموضوعنا اليوم فنشرع في القسم الأول منه:
الدراسة التحليلية يعتمد البحث أولاً على التحليل الموضوعي للخروج بتصور فقهي مناسب. يشتمل عقد (البناء، والتشغيل، وإعادة الملك) على أربعة عقود:
1 ـــ عقد البناء. 2 ـــ عقد التشغيل. 3 ـــ عقد الصيانة. 4 ـــ عقد التحويل (إعادة الملك) بإعادة المشروع لأصحابه. هذه العقود الرئيسة، ولكل واحد منها مواصفاته، وشروطه، المواصفات الدقيقة التي يتفق عليها المتعاقدون لإبرام العقد، وهو الأمر الذي لا تفرط فيه جهات التعاقد بحال، بل إنها تدون في الاتفاقات كل التفاصيل بشكل دقيق لكل ما له تعلق بالمشروع.
بشيء من الدقة والتأمل نجد أن كل واحد من هذه العقود الأربعة يشتمل على عقود متعددة من الباطن، متنوعة مثلاُ: عقد البناء، كلمة ”البناء” ليس المقصود منها المعنى الحرفي بل المقصود إقامة مشروع حسب طبيعته سواء كان بناءً، أو شق قناة، أو إقامة جسر، أو إنشاء طريق سريع، أو غير ذلك، وإن يكن البناء أساس العقد فتشييد المشروع يحتاج إلى متطلبات عينية في حاجة إلى إبرام عقود شراء، كما أن المشروع في حاجة إلى مهارات وحرف متعددة حسب متطلباته من الأعمال الفنية فيستدعي هذا إبرام عقود شراء، وإجارة، وكفالة، وتأمين إلى غير ذلك من العقود الأخرى.
كل هذه الأعمال تتطلب عقوداً يجريها القائم بالمشروع، تختلف حسب طبيعة العمل المتعاقد عليه. كذلك عقد التشغيل والصيانة له شروطه ومواصفاته الخاصة التي لا بد من وصفها، وضبطها في الاتفاقية، وتحديد قيمة الأجور لاستخدام الجمهور للمشروع، وتحديد أوصاف المشروع بكل دقة عند تسليمه للعاقد المحلي. من الأمور التي تهتم بها أمثال هذه العقود، ومن أجل ضبط الجوانب المالية والإدارية لا بد من التركيز على العناصر التالية وتوضيحها:
1 ـــ رأس المال. 2 ـــ وصف رأس المال، والاستثمار. 3 ـــ الشروط المتعلقة بالبيع والشراء، وما له علاقة برأس المال. 4 ـــ تنظيم وإدارة الشركة المنفذة للعقد. 5 ـــ صلاحيات الإدارة، ومسؤولياتها، والهيئة المنظمة. 6 ـــ الإجراءات، والاجتماعات للهيئة الإدارية. 7 ـــ حالات وإجراءات الفسخ والإلغاء ذات العلاقة بالشركة. 8 ـــ حقوق وواجبات الشركة المنفذة للمشروع والمستثمر التي لا بد منها في العقد. 9 ـــ الإجراءات التي تتخذ لتعديل بعض نقاط وفقرات الاتفاقية (1).
ثانياً: المقاصد الشرعية من عقد البناء والتشغيل وإعادة الملك (b.o.t.): لا بد لصحة أي عقد قديم أو حديث أن يتطابق مع المقاصد الشرعية، والمصالح الشخصية التي لا تتعارض مع مبدأ من مبادئ الشريعة. هذه قاعدة مهمة في صحة العقود قديمها وحديثها؛ لهذا فإنه من الضروري البحث عن هذا المعيار الشرعي بعد صحة العقد من ناحية الشروط، والأركان، وخلوه من أسباب الفساد والبطلان: يشتمل هذا العقد على مجموعة من المقاصد الشرعية المعتبرة في العقود؛ والمصالح المحققة للمكلفين؛ إذ إن مصلحة المكلفين لها اعتبار كبير في الشرع كما نص على ذلك ابن القيم الجوزية ـــ رحمه الله تعالى ـــ في كتابه الفريد أعلام الموقعين بقوله:
”فإن الشريعة مبناها، وأساسها على الحكم، ومصالح العباد في المعاش، والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها ـــ وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، ومن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسوله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي أبصر به المبصرون، وهداه الذي به اهتدى به المهتدون، وشفاؤه التام الذي فيه دواء كل عليل…”، وقد جمع هذا العقد من مقاصد الشريعة ما لم يجتمع في عقد آخر من حيث شمول مقاصده الشرعية للمجتمع، والأفراد، ونمو الأموال ما لم يجتمع في كثير من العقود الحديثة من أهم هذه المقاصد الشرعية:
1 ـــ تلبية حاجة المجتمع الإنساني، وإسهامه في توفير سبل الراحة للفرد والجماعة بأسلوب علمي، عملي محكم. 2 ـــ تنمية الأموال واستثمارها بطرق مشروعة فيما يفيد المجتمع الإنساني من المشروعات المدنية. 3 ـــ تخفيف الأعباء المالية عن الدول وبخاصة الفقيرة. 4 ـــ صيانة الممتلكات، والمحافظة عليها للاستفادة منها لوقت أطول. 5 ـــ توفير الخبرات اللازمة، وتأهيل المجتمعات النامية لأعمال الإنشاء، وخدمات الصيانة للاستقلال بأعمالهم مستقبلاً. 6 ـــ نزع فتيل الخلاف:
وذلك بدقة العقد وتفصيل الحقوق والواجبات لجميع الأطراف بما يمنع الخصومة، وهو المعتاد في مثل هذه العقود؛ إذ كلما كانت بنود الاتفاق دقيقة، مفصلة، محكمة توضح حقوق كل طرف في العقد، يكون هذا أدعى إلى منع الخصومة، فإذا صحت أركان العقد وشروطه، وخلا من المحظور في فقه المعاملات، وحقق العقد المقاصد الشرعية، والمصالح الشخصية التي لا تتعارض والمبادئ الشرعية، وخلا من المحظورات الشرعية كلاً وجزءاً فإنه ينتج عن هذا صحة العقد وما يترتب عليه من آثار. ثالثاً: التخريج الفقهي للعقد ويمكن تخريج هذا العقد من الناحية الفقهية عدة تخريجات بشرط أن يكون خالياً من أي محظور شرعي تتمثل في واحد من العقود التالية:
1) عقد جديد المبنى ويعد من قبيل العقود المبتكرة، وليس من العقود التي تطرق لها الفقهاء قديماً وحديثاً حتى يمكن التخريج عليه. 2) عقد استصناع تغليباً. 3) القياس على إعمار الوقف. 4) عقد كراء. والرأي الراجح هو الأول وهو ما رجحه الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان ــــ حفظه الله.
وبعد العرض السابق يتضح لنا أن البناء الفقهي لهذا العقد مكتمل الجوانب مما يجعله وسيلة تنموية شرعية تسهم في عملية البناء الحضاري الذي ينشده المواطن سواء ما يتعلق بالبنية التحتية أو مشاريع الإسكان أو الخدمات المرفقة، ويجب على علماء الشريعة أن يواكبوا هذه العقود المبتكرة ويصححوا ما تحتاج إليه من تصحيح أو تعديل بما يتوافق مع القاعدة الشرعية العامة ”الأصل في المعاملات الحل”. وفي المقال الأخير نفصل في التكييف الفقهي
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال