الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
من المعلوم أن هذا العقد يمتد غالباً سنين عديدة تستمر إلى عقد أو عقدين، تتأثر فيها الأجور وتتعرض أسعار المواد علوا وهبوطاً في الثابت والمنقول من البضائع بالغلاء والرخص، وتمنى أحياناً بأسباب الفساد والبطلان، وتؤثر سلباً على استمرار العقد وسلامته ويكون لها تأثير سلبي على المتعاقدين، أو أحدهما بخاصة، أو على المجتمع بعامة. من أجل ضمان استمرار العقد على وجه صحيح، وفي مواجهة بعض ما يطرأ من شؤون ليس للمتعاقدين يد فيها وجدت احتياطات وحلول شرعية عملية عديدة تعالج ما قد يطرأ على هذا العقد كله أو جزئه، ويهدد سلامته واستمراره، يلجأ فيها إلى الوسائل الفقهية التالية لمعالجة صحته، والعمل على استمراريته من دون انقطاع حتى تمامه، من أهمها ما يأتي:
أولا: تصحيح مفسدات العقد شرعا: اختلال ركن، أو شرط من شروط العقد، أو عدم الأخذ بقاعدة شرعية يؤثر على صحته بالفساد، والبطلان، ومن ثم على استمراره. استمرارية المشروعات الضخمة التي تقوم على أساس هذا العقد غالبا ما تحتاج إلى رأسمال كبير تعجز عن تمويلها الشركات والمؤسسات العامة وحدها، وغالبا ما تلجأ إلى الاقتراض من البنوك، أو البيوت التجارية الكبيرة، وهذه عادةً لا تسمح بالإقراض إلا بعد فرض نسبة ربوية على مبلغ القرض، وهو مبطل للعقد في الفقه الإسلامي. خلو أمثال هذا العقد من الربا نادر جدا، وكذلك بالنسبة لما يسمى بالضمان البنكي المبني على الفائدة بالنسبة لمقدار رأس المال، هذه بعض الأسباب الظاهرة المؤثرة في صحة مثل هذا العقد.
والعلاج لمشكلة ضيق رأس المال لتمويل المشروع الضخم هو إسهام بيوت المال في مثل هذه المشاريع عن طريق المشاركة، فقد تعظم أرباح المشروع، خصوصا إذا كان هذا النوع من العقود المحكمة التي تدرس جدواها بدقة متناهية، ووضعت في أيد أمينة تحقق مصالحها ومصالح المجتمع بطريقة شرعية سليمة. إذ حكم لبعض العقود الحديثة بالصحة ابتداءً، ومنها عقد (نظام البناء والتشغيل وإعادة الملك) الذي يرمز إليه b.o.t فلا بد فيه من مراعاة المقاصد الشرعية والقواعد العامة في الشريعة الإسلامية التي يجب عدم الإخلال بها لصحة العقد: منها: ما ذكره القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي بقوله: ”وإذا اعتبرت الأسباب التي من قبلها ورد النهي الشرعي في البيوع، وهي أسباب الفساد العامة، وجدت أربعة:
أحدها: تحريم عين المبيع. والثاني: الربا. والثالث: الغرر. والرابع: الشروط التي تؤول إلى أحد هذين، أو لمجموعهما. وهذه الأربعة هي في الحقيقة أصول الفساد؛ وذلك أن النهي إنما تعلق فيها بالبيع من جهة ما هو بيع، لا لأمر من خارج. ومن المسائل المتعلقة بذلك الضمان البنكي إن كان مبنيا على تقدير المصاريف الإدارية فحسب فلا غبار عليه شرعا، أو كان للشركة رصيد موجود بالبنك (غطاء) يكون البنك حينئذ وكيلا عن الشركة، ويكون للبنك حكم الوكالة في أخذ الأجر على الوكالة، أو كان بغير (غطاء) فإن ما زاد على أجر المصاريف الإدارية غير مقبول شرعاً، وقد فصل القول في هذا الموضوع، وأوجد له الحلول الشرعية بالتفصيل قرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي رقم: 12(12/2).
ثانيا: الظروف الطارئة: قد يبرز إلى الواقع حدث طارئ عصيب غير متوقع خلال إقامة المشروع، وهي التي تكون خارجة عن إرادة أطراف العقد مثل: الحرب، الزلازل، الفيضانات، الحريق، العواصف، غلاء الأسعار بصورة مفاجئة، وما ماثل ذلك، غالبا ما تنشأ خلال العقود الطويلة، هذا بلا شك يزيد من تكاليف المشروع، وقد يؤدي إلى التوقف إذا لم يعالج بالسرعة المطلوبة. لهذه الظروف التي لم تكن في حسبان المتعاقدين اعتبار في الشريعة الإسلامية، تحفظ التوازن بين مصالح المتعاقدين بما يخفف وقع الخسائر، والأضرار التي تنشأ عما لم يكن في الحسبان من أحداث تؤثر على إقامة المشروع واستمراره، ومن ثم على أطراف العقد، حينئذ يلجأ إلى ما يسمى (بنظرية الظروف الطارئة)، حيث يتم النظر بين العقد في صيغته، وبين واقع المشكلة، ويجري التوفيق بين مصالح أطراف العقد بروح العدل والإنصاف، دون إجحاف، أو تحيز لطرف دون آخر.
رابعا: الحل الصحيح للأوقاف عديمة الموارد: تحتل معظم الأوقاف في البلاد الإسلامية، خاصة في بلاد الحرمين الشريفين مواقع مهمة جداً أصبحت تمثل المنطقة المركزية الأهم في هذه البلاد، وهي الأقرب للأماكن المقدسة، حيث يتركز حولها النشاط التجاري، ومع مرور الزمان قد ضعف دخلها، أو خربت حتى أصبحت غير قابلة للسكنى، ولا تدر دخلاً مجزئاً يكفل إصلاحها، واستثمارها ولا يمكن كمال الاستفادة منه، خصوصا وقد تضاعف عدد المسلمين، وفي السنوات الأخيرة اشتدت الرغبة في زيارة الأماكن المقدسة أداءً لفريضتي الحج والعمرة، وزيارة المسجد النبوي الشريف، وأصبح الوصول إلى البلاد المقدسة سهل المنال حتى للفقراء،
وقد ضرب الأمن أطنابه في ربوعهما بفضل من الله جل وعلا، ثم بفضل جهود رجال الأمن في الحكومة السعودية، تتمثل مشكلة هذا الموضوع في أمرين: أولا: الكثير من الأوقاف يحتل أكبر جزء في وسط البلد؛ حيث الكثافة السكانية، ولا يستفاد منها الاستفادة القصوى المطلوبة. ثانيا: الأوقاف – كما هو معلوم – المقصود منها تحبيس العين وديمومة المنفعة، وأي تصرف فيها ينبغي أن يحافظ على أصولها، واستدامة الانتفاع بها، بل إن بعض المذاهب الفقهية لا يوافق على الاستبدال فضلا عن البيع حفاظا عليها، وتظل بحالها خرابا دون الاستفادة منها؛ خوفا على ضياعها، برغم غلاء موقعها، حيث النشاط التجاري. الحل التقليدي لمثل هذه الأوقاف:
1. الإبقاء عليها كما هي، حتى لو انعدم الانتفاع بها، وهو مذهب الشافعية. 2. إعمارها، أو استبدالها إذا خربت، وتعطلت منافعها، كما هو مذهب الحنفية والحنابلة. على تفصيل في المذاهب الأخرى. الحلول التقليدية لاستثمار الأوقاف يكون بتأجيرها، أو استبدالها، أو توظيف أموالها.
هذه الحلول سليمة، حيث لا يوجد بديل سواها، أما وقد ظهر في العصر الحديث من أنواع المعاملات المالية ما يحقق المقصود من الأوقاف (تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة) من غير أن يناقض مبدأ، أو قاعدة شرعية فإنه يكون الأخذ به أولى. (عقد البناء والتشغيل وإعادة الملك) بصيغته، وتفاصيله الشرعية الصحيحة يحقق المقصد من الوقف دون مساس بقاعدة شرعية؛ إذ يمكن إعادة بناء الوقف، وتشغيله لمدة محدودة يسترجع فيها المستثمر حقوقه، وأرباحه، ثم يعيده بحال سليمة جيدة إلى الموقوف عليهم، بهذا يتحقق التعريف والمقصد الشرعي من الوقف دون مساس بجوهره، بل إنه في بعض الأحيان يقرر المستثمر مبلغا مقطوعا من المال يدفعه إلى الموقوف عليه كل عام طيلة مدة استثماره الوقف.
وفي خاتمة المقالات نصل إلى حقيقة علمية، أن هذا العقد أثبت جدواه، وفعاليته في إنقاذ الكثير من الأوقاف الخراب في مكة المكرمة دون التفريط فيها، بل ساعد هذا النوع من العقود على المحافظة عليها، وإعادة إعمارها، وضمان الدخل الجيد للموقوف عليهم. ويؤكد هذه الحقيقة العقود العديدة التي يبرمها المستثمرون للأوقاف في مكة المكرمة والمدينة المنورة في الوقت الحاضر، وأبرزها مشاريع الحرمين والخدمات العامة . بمثل هذا العقد يحافظ على عين الأوقاف من الضياع، وضمان استمرار الاستفادة منها لتوزيع دخلها على الموقوف عليهم. والله أعلم.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال