الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في ظل تحديات الأمن الغذائي العالمي الناتجة عن انتشار الأوبئة واشتعال الحرب الروسية الأوكرانية وتراجع سلاسل الإمداد، تتربع الدول الخليجية بالنسبة لعدد سكانها قائمة أكبر القوى الشرائية للمواد الغذائية المستوردة في العالم، ليعادل قيمة الغذاء المستورد 26% من إجمالي وارداتنا الخليجية ويشكل 83% من احتياجاتنا الغذائية. وجاء تقرير برنامج الأغذية العالمي ليؤكد أن قيمة الواردات الخليجية من الغذاء فاقت خلال العام الماضي 53 مليار دولار أمريكي، وذلك لمعاناة الدول الخليجية من فجوة غذائية مزمنة تفوق نسبتها 100% في الأرز و92% في الذرة و86% في الشعير و76% في القمح و34% في اللحوم والدواجن والألبان. وجاءت هذه الفجوة الخليجية نتيجة لاختلال التوازن بين زيادة السكان وانحسار الإنتاج الزراعي، إضافة لاتساع رقعة التصحر وجفاف الطبيعة وندرة المياه، مما أدت جميعها لإرهاق كاهل ميزانيات الدول الخليجية بسبب دعم أسعار المواد الغذائية لمواجهة آفة التضخم المستورد.
ونتيجة لما يشكله الأمن الغذائي في المملكة من تحديات مُلِحّة، جاءت أهداف وزارة البيئة والمياه والزراعة على رأس أهداف برنامج التحول الوطني، متفوقةً بذلك على كافة الوزارات بعدد 16 هدفاً من أصل 187 هدف استراتيجي، وذلك لما للغذاء من أهمية قصوى وصلة مباشرة بصحة الإنسان ومستقبل الأجيال تفوق أهمية النفط والغاز.
ومن هذا المنطلق أصبح إنشاء المخزون الغذائي الاستراتيجي في المملكة مطلباً رئيساً يفوق أهمية الاستثمار الزراعي الخارجي، الذي لا يفي بالغرض المنشود لكونه يخضع لاتفاقات دولية بالغة التعقيد. فالنظام التجاري العالمي قد يعوق استيراد المملكة للسلع الزراعية التي استثمرت في انتاجها خارجياً، لأن المادة (11-2-أ) من اتفاقية (الجات) في منظمة التجارة العالمية تمنح كافة الدول: “الحق في فرض الحظر على صادراتها الزراعية بقصد منع أو التخفيف من وطأة أوجه النقص الحرج أو الحاد في المواد الغذائية أو المنتجات الأخرى التي تعد ضرورية لمواطنيها ولا غنى عنها”.
إضافة لذلك فإن المملكة المستثمرة في الزراعة الخارجية ملتزمة نظاماً لدى استيراد منتجاتها الزراعية، بتطبيق مبدأ حق الدولة الأولى بالرعاية دون التمييز في أسعار بيعها على الغير. لذا لا يحق للمملكة، طبقاً للمادة (1) من اتفاقيات النظام التجاري العالمي، تخفيض هذه الأسعار أو رفعها لدى استيرادها لمملكة أو تصديرها لدولة أخرى، حتى إذا كانت هذه الاستثمارات الخارجية ومنتجاتها مملوكة للمملكة بنسبة 100%.
من خلال هذه النصوص القانونية، فرضت روسيا في عام 2007 الحظر على تصدير القمح بسبب الحرائق التي داهمت مزارعها، وفرضت كل من الهند وتايلند والصين ومصر الحظر على تصدير الأرز في عام 2008 بسبب انخفاض مستوى مخزونها، وفرضت أستراليا الحظر على تصدير الشعير في عام 2014 بسبب موجة الجفاف التي أصابت مزارعها، كما فرضت الفليبين واندونيسيا وماليزيا في عام 2010 الحظر على تصدير زيوت النخيل لإجبار المزارعين لديها على تخفيض أسعار هذه السلع في أسواقها المحلية.
لذا فإن الاستثمار الزراعي الخارجي لا يعد أمناً غذائياً للمملكة لاحتوائه على عدة معوقات محفوفة بالمخاطر، ويصبح عبئاً استثمارياً مرهقاً قد لا يستفاد منه في ظل أحكام النظام التجاري العالمي، وبالتالي فإن هذا الاستثمار لا يفي بأهداف الأمن الغذائي المنشود. وفي المقابل فإن المخزون الغذائي الاستراتيجي في المملكة يتمتع بمقومات مميزة، منها توفر الغذاء لفترات تخزينية طويلة تمتد من 5-10 سنوات في الصوامع السعودية المؤهلة، والقوة الشرائية لإبرام اتفاقيات الشراء طويلة الأجل مع مختلف منتجي وموزعي الغذاء من جميع بقاع العالم وخلال مواسم الأسعار المنخفضة، بالإضافة لتوفر الأجهزة الإدارية اللوجستية في المملكة التي تستطيع التحكم في كمية المخزون وتوزيعه في الأسواق لتفادي تقلبات الأسعار والنقص في وفرة المنتج. كما بإمكان القائمين على هذا المخزون عقد تحالفات شراء إستراتيجية مع شركات الأغذية العالمية للاستفادة من تدوير محتويات المخزون بوتيرة تضمن توفر السلع الغذائية الرئيسية على مدار السنة ولمدة تتراوح بين 5 إلى 10 سنوات في المتوسط.
ونظراً لأن مستقبل الطلب العالمي على السلع الغذائية الأساسية سوف يفوق كمية المعروض منها، فعلينا الاقتناع بأن أسعار الغذاء العالمي لن تعود مستقبلاً إلى سابق عهدها نتيجة زيادة تكاليف الانتاج الزراعي وتدهور الأحوال المناخية وتنامي الأمراض الزراعية. لذا يتوجب علينا البدء فوراً في بناء المخزون الغذائي الاستراتيجي من خلال الخطوات التنفيذية التالية:
أولاً: الإسراع في تخصيص المؤسسة العامة للحبوب ودمجها مع الشركات السعودية المساهمة والمتخصصة في إدارة المخزون الغذائي الاستراتيجي بمختلف المدن والقرى داخل المملكة، وتوقيع عقود الشراء طويلة الأجل مع الشركات الزراعية العالمية ليتم توفير هذه السلع الأساسية والقضاء على الاحتكار.
ثانياً: اعتماد مبدأي “الشراء الآجل” و”الشراء بحصص الكوتا” لدى توقيع العقود مع الشركات الزراعية العالمية، مما يمنح شركات المخزون الاستراتيجي السعودية القدرة على دفع فواتير المواد الغذائية لدى شرائها فقط. وإذا توفر الفائض من حصص “الكوتا” المحجوزة لصالح المخزون السعودي، تقوم الشركة السعودية المساهمة ببيع الفائض للدول الأخرى بأسعار السوق العالمية لتحقق الأرباح من ارتفاع الأسعار المستمر.
ثالثاً: توقيع عقود طويلة الأجل لشراء السلع الغذائية الأساسية من الدول الزراعية التي تمتلك فائضاً كبيراً في الإنتاج، مثل دول الإتحاد الأوروبي التي تمتلك 43% من الإنتاج العالمي، والدول الزراعية المعروفة باسم “مجموعة كيرنز”، وعددها 19 دولة، وتمتلك 26% من المحصول الزراعي العالمي. وتقوم الشركة السعودية بالتعاون مع هذه الدول لضمان تنفيذ هذه العقود من خلال اتفاقات تجارية محكومة بقواعد النظام التجاري العالمي ومضمونة بالتأمين الدولي من خلال البنوك التمويلية، مثل البنك الاسلامي للتنمية والصندوق السعودي للتنمية.
رابعاً: التعاقد مع شركات النقل البحري الوطنية لتصميم وبناء السفن المتخصصة في نقل السلع الزراعية، لتكون الجسر البحري الآمن بين الدول المنتجة للغذاء والمملكة. وتساهم هذه الخطوة في تعزيز قدرة المملكة على التحكم بأسعار الشحن والتأمين وضمان الحصول على السلع الغذائية المطلوبة بالمواصفات القياسية.
هذا هو مفهوم الأمن الغذائي المطلوب تحقيقه في المملكة لكي يحميها من تضخم الأسعار العالمية مستقبلاً ويحصن أسواقها ضد الاحتكار والابتزاز من الدول المنتجة والمصدرة للغذاء.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال