الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
“صناعة القانون مثل صناعة النقانق، فمن الأفضل ألا ترى كيف تٌعَدُّ”، هذه مقولة تٌنسب للرجل السياسي الألماني المخضرم أوتو فون بسمارك، والذي ممكن أن تسمعها لو استمعت لنقاش أعضاء الكونغرس الأمريكي وصراخهم حول المشاريع القانونية أمامهم. لا شك إن صياغة الأنظمة القانونية ليست بالأمر السهل؛ لما لها من آثار اقتصادية، وقانونية، وحتى اجتماعية على البيئة نفسها. ويلحظ المتابع تطورًا ملحوظًا على المنظومة التشريعية والقانونية في السعودية، على المستوى التجاري، والأحوال الشخصية، وعلى المستوى الضريبي، والأسواق المالية، والمنافسة، وغيرها من التخصصات القانونية، المهمة لنهضة اقتصادية تستحقها المملكة.
يعد نظام الشركات، من أهم ركائز الأنظمة القانونية والاقتصادية والمهمة للمستثمرين، سواءً على الصعيد المحلي أو المستثمر الأجنب؛ ويعتبر لبنة أساسية لإنشاء بيئة قانونية محفزة واستثمارًا مشجعًا. ومن المعروف في الأوساط القانونية التجارية؛ تأثر تطور نظام الشركات السعودي بالتجربة المصرية أو الفرنسية بشكل مباشر أو غير مباشر. حيث إن نقل تجارب قوانين الشركات للدول المتقدمة إلى البيئة المحلية السعودية، يُعَدُّ أقل تعقيدًا في النسخ والمقارنة، فضلًا عن أن سن هذه القوانين محليًا، فيه مخاطرة ومكلفًا من الناحية الاقتصادية، كما أن نقلها من قوانين شركات الدول المتقدمة سيكون محفزًا للمستثمر الأجنبي، الذي سيسعد عندما يجد تنظيمات وهيكليات قانونية مشابهة لما تعود عليها في بيئته التي أتى منها، وستقلل من الالتفاف في استعمال صياغات قانونية كما نشهده مؤخرًا في اللجوء لجزر الكايمن.
ولكن من المهم أن تدرك وزارة التجارة وهيئة سوق المال، أن النقل والنسخ من قوانين الدول المتقدمة لم يعد كافياً. كما قال الفيلسوف القانوني Alan والأب الروحي لدراسة انتقال القوانين بين الدول والحضارات: “النسخ من القوانين المتقدمة كفرنسا، أمريكا، بريطانيا لم يعد ميزة خاصة لأي دولة، بل يجب أن يكون النظام مواكبًا للبيئة التي سينتقل لها القانون، ويعكس حاجة الدولة ومجتمعها وثقافتها.” ومن هذا المنبر، اعتقد أن المجتمع القانوني السعودي من قضاة، وأكاديميين، وممارسين قانونيون، وحتى المستثمرين الأجانب، يتوقعون أن يكون القانون مفهومًا. قد يتساءل البعض، كيف يكون القانون مفهومًا؟ لعل النظر إلى تجارب دولية مختلفة كالتجربة السنغافورية، والأوربية، والروسية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في تطوير أنظمتهم مؤخرًا، يمكن أن يسهل للقارئ الوصول إلى المغزى هنا.
لقد كانت التجربة السنغافورية مميزة دون شك على كافة الأصعدة. فمن خلال تطوير قانونهم للسوق المالي، أجريت دراسة اجتماعية، ومؤسساتية مالية وقانونية، تم نشرها على المستوى السنغافوري، وصفت مكامن الضعف والنقص والقوة، وبحثت بشكل دقيق في أنظمة قانونية بعينها؛ فاختارت اللجنة السنغافورية بعد مقارنات، القانون الأمريكي والبريطاني لأسباب كثيرة لا تخفى على الجميع. والمميز في مقارنتهم المنشورة عبر موقع هيئة السوق السنغافورية، والمعتمدة على دراسة تحليلية اقتصادية وقانونية، لكفاءة وقدرة المؤسسات في سنغافورا مقارنة بتلك الدول من ضعف وعدم تماثل للقانون السنغافوري، والتي رأت اللجنة وجوب مراعاتها بدقة. ومن المميز في تحليلهم أيضًا، وهو ان المادة الفلانية يعالجها النظام الأمريكي والبريطاني بكذا وكذا. ولكن السوق السنغافوري يحتاج إلى معالجته بالطريقة البريطانية، وتشرح اللجنة الأسباب لاختيارهم التنظيم البريطاني في هذا الموضع مثلا دون الأمريكي؛ لأن هيكلية السوق السنغافورية مشابهة لحد ما للسوق البريطاني، وهكذا مادةً مادةً.
ومن خلال هذا التحليل، يستطيع المهتم بهذا الشأن من قضاة وأكاديميين؛ إدراك هذه الخلفية التاريخية المهمة من هذه النصوص الجامدة، والتي تعرف في علم القوانين بنيَّة المشرع. وهذا أمر مهم حتى للشركات والممارسين مقدمي الحلول القانونية السليمة لعملائهم ومنتجاتهم المالية. وفيه دون شك تخفيف العبء على القضاة، وفي فهمهم وتصورهم لمصدر القانون، وطبيعة اختيار المنظم لتقنين المادة بطريقة معينة، وطبيعة ما يطرأ على القوانين من تغييرات، ورغبة المنظم في اتجاه تشريع معين دون الآخر. كما لا يجب أن ننسى ما قد ينشأ في المستقبل من مشاكل في هذا القوانين؛ مما يتطلب فهم كينونة مصدرها، فضلًا عن القاعدة القانونية الأجنبية المنقولة للبيئة المحلية، يتطلب تطبيقها وقتًا يتم فيه اختبار صلاحيتها وطبيعة عملها في البيئة الجديدة.
وتعد التجربة السنغافورية مختلفة جدا عن التجربة الأوروبية في القوانين الخاصة بأنظمة السوق المالية والشركات، والتي انطلقت إليها جميعًا من نظام السوق البريطاني، وهو ما يعد خطأ فادحًا برأي الكثيرين، فكفاءة المؤسسات القانونية والمالية بين تلك الدول الأوربية ستكون مؤثرة عند نقلها من بيئة إلى بيئة أخرى. كما يقول أحد المحامين الأوربيين: أن نقل التجربة البريطانية إلى البيئة الأوربية جاء بنتائج معاكسة في البيئة المحلية الذي نقل إليها النص. فعلى سبيل المثال، منح حصانة للشركات العائلية، وأكسبها مناعة قوية، مما أدى إلى تخاذلهم في رفع أداء الشركات التي تسيطر عليها الشركات العائلية، حيث التركيبة البريطانية تسيطر عليها مؤسسات مالية وليس شركات عائلية.
والأعجب أن بريطانيا رفضت القانون المقترح، على الرغم من أنه بني على نظامها City Code ؛ والسبب يعود إلى أنه كان يطلب من كل دولة إنشاء جهة حكومية للإشراف على عمليات الاستحواذ، وهو ما لم تقبله بريطانيا؛ إذ هي لا تريد تدخلًا حكوميًا مباشرًا كما في الطريقة الأمريكية SEC. ولهذا يعنون كاتب في كتابه عن الفشل الأوربي، أن الورق الذي كتب عليه القانون أغلى من القانون نفسه. ويضيف كاتبًا آخر: أن نسخ التجربة البريطانية إلى البيئة الإيطالية مثل “الذئب في رداء الحمل.” وفي النهاية وبعد سنين من الطحن، انتهى الأوربيون إلى الحل الذي تقدمت به دولة البرتغال. وهو أن يكون لكل دولة ان تختار ما يناسبها من القانون البريطاني المقترح، بشرط سياسة المعاملة بالمثل حسب ما يناسب الدولة وثقافتها، ومؤسساتها، ومناخها السياسي.
والتجربة الأخيرة هي التجربة الروسية، والتي مثلت علامة للفشل، فبعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتفككه، استقطبت الحكومة آنذاك مجموعة من أساتذة جامعات هارفارد، لتطوير البيئة القانونية والتجارية، ودراسة خصخصة الشركات الحكومية النفطية التي كانت تملكها الحكومة السوفياتية قبل سقوطها. ولكن النتيجة كانت فشلًا كبيرًا للمستشارين الأجانب في قراءة الثقافة الروسية والمناخ السياسي؛ مما أدى إلى تأخر الاقتصاد الروسي. ويعلق أحد المستشارين الأجانب الأمريكيين بعد هروبه من روسيا، في مقال نشر في صحيفة النيويورك التايمز بعنوان ” ما لخطأ الذي حصل”؟ ويعلل الكاتب فشل الخصخصة، بأنه خلال سن القوانين، لم يستطيعوا قراءة المناخ السياسي والثقافي الروسي بشكل جيد؛ حيث أن منهج الاقتصادي ميلتون فريدمان المعروف بالعلاج بالصدمة أحدث أثارًا سلبية في روسيا.
وعلى مستوى الصعيد الشخصي من التجارب التي أراها ناجحة في صناعة القوانين، هي التجربة اليابانية، والتي أعادت أمجاد اليابانيين، إثر خروجهم من خارطة العالم خلال التسعينات والتي سميت بالعقد المفقود. وهناك دراسة تفصيلية عن تجربتهم بإعادة صياغة القوانين اليابانية، بما يوافق التجربة اليابانية، وكفاءة المؤسسات القانونية والمالية للسوق والبيئة اليابانية، فضلاً عن الاستعانة والمقارنة بالتجارب الدولية المختلفة. فقد تميزت بالوصف التحليلي الدقيق للقوانين والمحاكم، والفصل في الأحكام، وغيرها من الأمور الدقيقة التي تمت مقارنتها.
ومن هذه التجارب، يمكن للقارئ أن يصل لنتيجة مفادها، أن نسخ القوانين من الدول الأخرى المتقدمة، لم يعد ميزة أو “برستيج”، فالمجتمع القانوني السعودي لا يتوقع فقط أن ينشر نظام الشركات مرفقا به اللائحة، فهذا سدًا تشريعياً، على وزارة التجارة وهيئة سوق المال القيام به، بالإضافة إلى عقد الورش. ولا أعتقد أن الوثيقة التعريفية المنشورة كافية؛ إذ يتوقع القضاة، والأكاديميون، والممارسون معه على الأقل، دراسة منشورة دقيقة، ومن أين كانت هي النصوص القانونية بشكلها الجديد، والأسباب خلف الغاء المادة الفلانية بتوضيح دقيق، ومن قام بإعداد مشروع نظام الشركات، وهل فعلاً تم الأخذ في الحسبان عند النقل من تلك الدول الأجنبية، دراسة واضحة لقوة وكفاءة المؤسسات المالية والقانونية في البيئة السعودية، مقارنة بتلك الدول. هذا أقل شيء يطلبه المجتمع القانوني السعودي لقانون لطالما انتظروه.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال