الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
المشكلة الأساسية في السوق المالية هي أنَّها تتأثَّر بشكلٍ كبيرٍ بالعوامل النفسية للمستثمرين؛ فالسوق تَذهَبُ صعوداً أو هبوطاً بالأسعار وفق لمزاج المستثمرين الإيجابي أو السلبي.
ففي الواقع، إنَّ ما يَصعَدُ بسعر سهمٍ مُدرجٍ في السوق ليس الأداء التشغيلي للشركة التي أصدرت السهم ولا الأخبار الإيجابية الصادرة عنها، بل هو قدرة هذه العوامل الإيجابية على التأثير في نفسية المستثمرين ودفعِهِم لطلب السهم بأسعارٍ مرتفعةٍ مُحدَّدةٍ أو بأيِّ سعرٍ مهما كان مُرتَفِعَاً في السوق.
والسبب من وراء هذه الحساسية السعرية العالية للأسعار في السوق تجاه نفسية المستثمرين، هو أنَّ التسعير في السوق المالية يتمُّ عبر تلاقي العرض بالطلب وفقاً للاتجاهات المُجرَّدة للمستثمرين، والتي قد تكون مخدوعةً أو مبالغاً فيها في الكثير من الأحيان.
من هذا المنطلق، فإنَّ من أهمِّ مهام هيئة السوق المالية هو حماية المستثمرين من ممارسات التلاعب التي قد تَجرِي في السوق (مادة 5-أ-4 نظام السوق).
وقد يبدو من طبيعة السوق المالية أنَّه لا يمكن التأثير التلاعبي فيها إلاَّ من خلال التداول؛ فمثلاً يقوم المتلاعب بالشراء بسعرٍ مرتفعٍ حتى تَصعَدَ الأسعار، أو البيع بسعرٍ منخفضٍ حتى تَهبِطَ الأسعار.
لكن تلك الممارسة تتضمَّن مخاطراً كبيرةً تجاه المتلاعب، فهو يَدخُلُ شخصياً أو من خلال أشخاصٍ مُسخَّرينَ منه إلى السوق، ويُجرِي عمليات تداولٍ يتمُّ تنفيذها على بيانات السوق بيعاً أو شراءً.
لذا، فإنَّ الطريق الأسهل للمتلاعبين والأقلُّ مخاطرةً هو نشر الشائعات والبيانات الخاطئة أو المضللة تجاه بعض الأسهم بغرض الإيحاء باحتمال ارتفاع أو انخفاض أسعارها؛ أي تقديم معلوماتٍ للجمهور بهدفٍ واحدٍ فقط، وهو زرع الوهم في نفسية المستثمرين، ثم قيادتهم إلى تنفيذ عمليات تداولٍ على طرف البيع أو الشراء وبأسعارٍ مرتفعةٍ أو مُنخَفِضَةٍ وفقاً لمصلحة المتلاعبين.
فإذا كان المتلاعب يمتلك عدداً كبيراً من أسهم شركة معينة، وقد عرضها للبيع لوقت طويل دون أن تَجِدَ مَن يشتريها؛ فهنا ينشر المتلاعب أخباراً إيجابيةً كاذبةً عن الشركة، أو يُعلِنُ عن احتمالٍ مضلِّلٍ لارتفاعٍ كبيرٍ قريبٍ في سعر سهمها، وهكذا يندفع المستثمرين لشرائِهَا بسبب وقوعهم في الوهم الذي رسمه المتلاعب، لكن سرعان ما ينخَفِضُ سعر السهم بعد أن يبيع المتلاعب أسهُمِهِ، وتنتهي عملية التلاعب بغاية رفع الأسعار.
وفي المقابل، فقد يكون المتلاعب من الراغبين بالاستحواذ على شركةٍ معينةٍ، دون أن يتسنَّى له ذلك بسبب ارتفاع سعر سهمها في السوق المالية؛ ولهذا يقوم المتلاعب بنشر شائعاتٍ مُضلِّلةٍ عن احتمال حدوث هبوطٍ جوهريٍّ قريبٍ في سعر السهم، كلُّ ذلك بغرض إيهام المستثمرين بوجود اتجاه هبوطي للسعر، فيندفع المستثمرين لبيع السهم بأيِّ سعرٍ، وشيئاً فشيئاً ينخفض سعر السهم، وتُصبِحُ عملية الاستحواذ على المتلاعب ممكنةً وأقلَّ سعراً.
لكن هذه ممارسة التلاعب هذه ُتعتَبَر جريمةً جزائيةً وفق نظام السوق المالية، كما أنَّه يحقُّ لكلِّ مستثمر انخدع بشائعات المتلاعب، الأمر الذي جعله يشتري بسعرٍ مبالغٍ فيه أو يبيعُ بأقلَّ من سعر السوق، أن يُقيمَ مسؤولية المتلاعب المدنية عن الخسائر التي تسبَّبت بها عملية التلاعب (مادة 57-أ نظام السوق).
لكن المشكلة الأساسية في مواجهة التسعير التلاعبي بالشائعات هي في اكتشاف هذه الممارسة أصلاً؛ فالمتلاعب لا يَظهَرُ في السوق، بل يبقى بعيداً خلال قيامه بتضليل المستثمرين وإيهامهم.
في الوقت الذي تبدو فيه مهمَّة هيئة السوق المالية شديدة الاتساع والتعقيد فيما يخصُّ ملاحقة الشائعات، خاصَّةً بسبب تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على نفسية المستثمرين.
بناءً عليه، فإنَّ أفضل ما تَقُومُ به الهيئة هو دراسة أسعار السوق، والانتباه إلى أيِّ تغيُّرٍ جوهري في سعر أيِّ سهمٍ، ثم القيام بدراسةٍ عن وسائل الإعلام ومواقع الإنترنت التي تناولت هذا السهم بالتحليل والنصائح؛ بغرض التأكُّد من دقَّة البيانات والمعلومات التي تنشرها، والغاية من النشر، وأسلوبه.
فإذا تبيَّن للهيئة وجود معلوماتٍ مُضلِّلةٍ عن السهم، أو استخدام بياناتٍ ماليةٍ مزورةٍ عن هذا السهم بأسلوبٍ تحريضيٍّ للتداول في اتجاهٍ مُعيَّنٍ؛ فهنا يكون على الهيئة فتح تحقيقٍ بالواقعة، وإحالة المتَّهمين إلى لجان الفصل بالمنازعات عن طريق النيابة العامة، ثم تصدر العقوبة الجزائية المناسبة بحق المتلاعبين ويحصل المستثمرون الذين وقعوا ضحية التلاعب على تعويضٍ ماليٍّ يساوي ما خسروه بسبب الشراء أو البيع بسعر تمَّ التلاعب فيه.
والسبب في صرامة النظام في هذا الإطار، هو أنَّ التلاعب بالسوق المالية لا يَضُرُّ بالمصالح الخاصة للمستثمرين وحسب، بل إنَّه يَضُرُّ في توازن السوق وشفافيتها وسمعتها ومستوى حوكمتها، أي أنَّ التلاعب هو جريمةٌ ماليةٌ فيها اعتداءٌ على المصلحة العامة؛ وهذا السبب من وراء اعتبار التلاعب بالأسعار جريمةً، وليس فقط خطأً موجباً للتعويض.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال